خطبة استرشادية بعنوان
الحج أخلاق وأرزاق وأشواق
خطبة عن الحج 1444 مكتوبة
خطبة الجمعة بعنوان الحج أخلاق وأرزاق وأشواق
الحمد لله رب العالمين
الحمد لله الكريم الرزاق، أمرنا بمكارم الأخلاق،
أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأثني عليه بما هو أهله،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل في الجنة غرفا لمن حسن خلقه،
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، أقرب الناس مجلسا منه في الجنة أحسنهم أخلاقا ، الذين يألفون ويؤلفون ،
فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الكرام الأطهار، وعلى أصحابه البررة الأخيار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم القرار.
أما بعد:
يقول الله تعالى : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )
#عبادالله:
اعلموا جيدا ان الإسلام لم يشرع العبادات بكافة صورها طقوساً ولا شعائر مجردة من المعنى والمضمون،
◀بل إن كل عبادة تحمل في جوهرها قيمة أخلاقية يجب أن تنعكس على سلوك المسلم المؤدي لهذه العبادة، وأن تتضح جلياً في شخصيته وتعاملاته مع الغير،
◀ولو تأملنا جميع العبادات لوجدنا ان الهدف منها هو تهذيب الأخلاق وتزكيتها،
فهذه العبادات تلتقي كلها عند الغاية التي رسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)رواه أحمد وصححه ابن عبد البر
◀فالإسلام ينقسم الى عقيدة - وشريعة - واخلاق
وغاية العبادات هى اقرار الاخلاق وتهذيب السلوك
لان الأخلاق ثمرة الدِّين ، وجوهرُ الدِّين
سيّدنا جعفر حينما سأله النجاشي حدّثني عن الإسلام قال :
أيّها الملك كنّا قومًا أهل جاهليّة نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونسيء الجوار ، حتى بعث الله فينا رسولاً ؛ نعرفُ أمانته وصِدقه ، وحسبهُ ، ونسبهُ ، فدعانا إلى الله لِنَعبدهُ ، ونوحّدهُ ، ونهانا عمّا يعبدُ آباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصِدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرّحم ، وحُسن الجوار ، وكفّ عن المحارم .
وبهذه القيَم الأخلاقيّة ارتقوا
◀والشعائر تتجلى في الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها مما أمر الله تعالى به،
ولا تستقيم الشعائر بدون حسن الخلق،
فجميع الشعائر تثمر الأخلاق الفاضلة،
◀فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر قال عز وجل:( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)
◀والزكاة تطهر الإنسان وتزكيه، قال سبحانه:( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)
◀والصيام يهذب النفس، قال صلى الله عليه وسلم :« من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه ».
◀والحج يرتقي بأخلاق الإنسان، قال تعالى:( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)
◀والعبادة مهما كثرت لا تغني عن حسن الخلق،
فإن سوء الخلق يمحق ثواب الأعمال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« أتدرون ما المفلس؟ ». قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:« إن المفلس من أمتي يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار».رواه مسلم.
◀وفي الحج أخلاق حسنة وقيم عالية وآداب رفيعة، حيث يتأدب الإنسان مع الكون من حوله، كيف؟
أدب مع الحجر فيقبل،
أدب مع الشجر فلا يقطع،
وأدب مع الطير فلا يروع،
وأدب مع الصيد فلا يقتل،
وأدب مع المكان فلا يلحد فيه أو يظلم،
وأدب مع الإنسان فلا يسب أو يشتم، ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ .
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾
صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجعُه . . . . فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تَسْتَقِمِ
◀والحج يثمر التقوى والتقوى القاسم المشترك مع كل العبادات وهي أعظم الأخلاق، وجماع مكارم الخير....
التقوى خير زاد: ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ ]..
وهي خير لباس: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ .
وهي خير ميراث: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾
وهي خير تركة لمن بعدك: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾
◀وفى الحج ارزاق لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ
نعم الحج سعة في الأرزاق؟
كيف؟
◀الحج ينفي الفقر كما يمحو الذنب، وكذلك العمرة.
ولذلك وصى الحبيب صلى الله عليه وسلم بالمتابعة فقال: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة" رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني عن بن مسعود، والمتابعة أي اجعلوا أحدهما تابعاً للآخر واقعاً على عقبه.
◀والتوكل ثم الأخذ بالأسباب
الذي يتعلمه الحاج من هاجر عليها السلام في السعي ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾ ، هاجر عليها السلام أخذت بالأسباب عندما سعت بين الصفا والمروة، وأيقنت في رب الأسباب عندما قالت لزوجها إبراهيم عليه السلام: [إذن لن يضيعنا] فرزقت زمزم وحفظ الله لها إسماعيل ورزقت الأمة من نسلهما أعظم خلق الله محمد عليه الصلاة والسلام وسجل القران موقف هاجر يتعبد به الناس الى يوم القيامة ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
◀ومن اخلاق الحج (ذرونى ما تركتكم، ..كما جاء فى صحيح مسلم - والمعنى لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع خشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل ، قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ،
◀والاستغفار والتوبة - وكلها من أعمال الحج - من الأسباب التي تجلب الرزق....!!
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وكادت الشمس أن تؤوب، فقال: يا بلال أنصت لي الناس، فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال: معاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاص، فقال: هذا لكم، ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة
فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب، كثر خير الله وطاب، كثر خير الله وطاب.. صحيح الترغيب والترهيب.
إنها مشاعر لا توصف، وأحاسيس لا تكتب،
إنما يستطعمها الذي يؤديها،
ويحسها الذي يلبي نداءها،
ويستشعرها الذي يحضرها،
فينظر الكعبة،
ويعانق الحجر،
ويصلي عند المقام،
يسعى كما سعت هاجر عليها السلام،
ويضحي كما ضحى إبراهيم عليه السلام،
ويطيع كما أطاع إسماعيل عليه السلام،
ويطوف كما طاف محمد عليه الصلاة والسلام،
ويقبل الحجر كما قبل عمر رضي الله عنه،
فقط عن حب وشوق وإخلاص، لعل قدم تأتي مكان قدم، وطواف يأتي مكان طواف، وسعي يأتي مكان سعي، فيزداد الإيمان ويكون الغفران، وينتشر الأمن ويأتي الأمان.
◀من هنا تأتى الاشواق
إنّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يتمنون إتيان هذا البيت في كلّ لحظةٍ من ليل أو نهار، فليس معنى فرضية الحج والعمرة أنهم يأتونه مكرهين! كيف؟ والفقير قبل الغني والضعيف قبل القوي والصغير قبل الكبير الكلّ يودّ أن لو ثاب إلى البيت كل عام بل وفي خلال العام!
شوقي إلى خير الخلق متصل ** يا ليت شعري هل أدنو وهل أصل
وهل أزور ثراه وهو خير ثرى ** استنشق المسك منه ثم أكتحل
وهل أرى روضة حل الكمال بها ** من كل أرض إليها تجهد الإبل
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم... استجيبت الدعوة، وتضاعف شوق القلوب نحو المكان، وازداد حنين الأفئدة كلما هلَّ موسم الحج، ففي كل عام مع دخول ذي الحجة يشتد الشوق لبيت الله الحرام، وتزداد دقات القلب حباً في المكان وشوقاً للزمان، ويتردد النشيد الثائر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
تتردد أصداؤه عبر الزمان وتتعدد نغماته عبر المكان، وتتجدد خواطره عبر القلوب، لبيك اللهم لبيك..!! تنادي الملائكة من السماء: لبيك وسعديك، زادُك حلال وراحلتُك حلال؟!
فيعود المخلص بحج مبرور وذنب مغفور،
يتبع في الأسفل