هل يمكن التجريب على الظواهر البيولوجية
مقالة فلسفية
مرحباً بكم متابعينا الأعزاء طلاب وطالبات العلم في موقع باك نت.baknit الموقع التعليمي المتميز والمتفوق بمنهجية الإجابة الصحيحة والنموذجية من مرحلة التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي bac 2023 كما يسرنا بزيارتكم أن نقدم أهم المعلومات والحلول وأفضل الأسئله بإجابتها الصحيحه من شتى المجالات التعلمية من مقرر المناهج التعليمية 2022 2023 وكما عودناكم أعزائي الزوار في صفحة موقع باك نت أن نطرح لكم ما تبحثون عنه وهو ......هل يمكن التجريب على الظواهر البيولوجية
. وتكون الإجابة على سؤالكم هي على النحو التالي
هل يمكن التجريب على الظواهر البيولوجية؟
طرح المشكلة :
إن انفصال العلوم عن الفلسفة كان له تأثير بالغ الأهمية على فهم الظواهر و تفسيرها، و هو ماجعل الدراسات أكثر واقعية باعتماد العلم على تفسير الظاهرة الطبيعية بظاهرة مماثلة. و هذا ما جعل العلماء في ميدان الأحياء يحاولون استثمار المنهج التجريبي في ميدان الظواهر الحية و الاستفادة من النتائج الإيجابية التي حققها العلم فيمجال المادة الجامدة كالفيزياء والكيمياء...
إلا أن دراسة الظاهرة الحية دراسة تجريبية بغية الوصول إلى تفسير علمي ، كانت محل تضارب و اختلاف المفكرين والعلماء، و قد انقسموا إلى قسمين، فالفريق الأول يرى أن المادة الحية كغيرها من المواد هي الأخرى يجب دراستها بنفس المنهج المعتمد في الدراسات العلمية و يجب الوصول إلى نفس غاياته( التعميم، التنبؤ...). بينما يرى فريق آخر أن المادة الحية، ما دامت تمتاز بالحياة، فيستحيل دراستها دراسة تجريبية علمية..
فكيف يمكننا الفصل في هذا التضارب ؟و هل يمكننا دراسة الظواهر الحية دراسة تجريبية علمية ؟ أم أن لهذه الظواهر خصوصيات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار و تدرس دراسة خاصة ؟
محاولة حل المشكلة :
1 ـ الأطروحة :( ويمثل هذا الموقف الفلاسفة الآليون).
ينطلق الفلاسفة و العلماء ذوي النزعة الآلية من فكرة أن الظواهر الحية يجب أن تخضع لنفس المنهج الذي يعتمده العلم في دراساته ، ألا و هو المنهج التجريبي قصد دراسة هذه الظواهر دراسة علمية.
*- مسلماتها و براهينها : - إن الفكرة التي ينطلق منها هؤلاء ، هي " الحياة هي الموت " بمعنى أن المادة الحية تتكون من نفس مكونات المادة الجامدة، أما الحياة أو ما يعرف بالروح فما زالت مجهولة بالنسبة إلينا، لهذا لا يجب أن نتخذها كعائق يجعل الدراسة العلمية مستحيلة.
+ـبدليل أن مكونات المادة الحية هي نفسها مكونات المادة الجامدة، فهي تتركب من :أوكسجين هيدروجين، أزوت، كربون،صوديوم...لهذا نجد البيولوجيا تدرس المادة لا الحياة. و فيهذا السياق يقول باسكال:" إن الإنسان آلة بيولوجية." أي أن هذا الجسم ما هو إلا مجموعة من الظواهر ذات الطابع الآلي و الميكانيكي، فلنأخذ مثلا ظاهرة الهضم، ما هي إلا حركات فيزيائية و تفاعلات كيميائية، فنفس القوانين الفيزيائية و الكيميائية التي تتحكم في الطبيعة هي التي تتحكم في الظاهرة الحية. وعلى ذلك نقيس بقية الظواهر الأخرى، دون استثناء. و ما يؤكد على صحة هذه الفكرة هو استغلال العلماء لهذه القوانين خدمة لتقنية التحكم في هذه الظواهر، فأصبح مرضى القصور الكلوي يستعينون بالآلة التي تقوم مقام الكلية، و في حالات أخرى نستعين بآلات تقوم مقام الرئة، القلب، الأذن...فالعين ما هي إلا آلة تصوير بيولوجية.. فالدراسات البيولوجية ستصل حتما إلى القوانين المتحكمة في مختلف الظواهر و من ثم تعمم على ما هو متشابه منها.لأن إنكار الحتمية في عالم الأحياء ما هو إلا إنكار للعلم في حذ ذاته، كما يقول كلود برنار.
أما الخطوات الإجرائية للتجريب فتمكن العلم من تطبيقها و التعامل معها كما يتعامل مع الظاهرة الجامدة، فأصبح بإمكان العلماء ملاحظة الظواهر الحية، بتطوير وسائلها،كأن نراقب النشاط الكهربائي للدماغ دون أن نعطل وظيفته، بل أكثر من هذا يمكننا ملاحظته بإجراء مقاطع افتراضية رقمية عليه دون أن نؤثر على الحياة التي تسري فيه. و هو ما مكن العلماء من عزل الظاهرة و مراقبتها، بل أصبح العلم قادرا على العزل الفعلي للظاهرة المدروسة بواسطة التخدير الطبي للعضو( مثلا عزل القلب عن الجسم أثناء القيام بعمليات القلب المفتوح دون أن نؤثر عليه...)
و لعل ما يبرهن على وجاهة هذه النظرة الآلية هو التطور الذي حققه علم البيولوجيا في مختلف ميادينه و على رأسها القفزات الهائلة التي قام بها الطب في فهم و تفسير و التحكم في مختلف الظواهر الحية بل و التنبؤ بها مستقبلا.و هذا ما جعل الإنسان يزداد ليونة عندما رأى ما يحققه العلم من نفع له، تساهل في أحكامه السابقة و ما كان حراما صار جائزا، و ما كان مس بكرامته أصبح خادما له و مفيدا له. فأصبح الكثير من الناس يتطوعون في حياتهم أو بعد موتهم خدمة للعلم فيسمحوا بإجراء التجارب عليهم خدمة للآخرين..
إذن البيولوجيا هي علم آلي يبحث عن القوانين الطبيعية في الظواهر الحية على غرار بقية العلوم الأخرى...
*- المنــــــاقشــة :ما يمكننا ملاحظته من خلال اعتماد العلماء على المنهج التجريبي العلمي لدراسة الظواهر الحية، هو قدرة العلم على تجاوز تلك التفسيرات الميتافيزيقية التي كان يعتمدها ، بل حقق قفزة نوعية في التحول مما هو ميتافيزيقي لما هو وضعي واقعي. و أكبر دليل على ذلك هو قدرة الطب على التحكم في الكثير من الظواهر المرضية التي كانت مستعصية و تبدو مستحيلة الفهم و ذلك باعتماده على قوانين فيزيائية و كيميائية..
إلا أن هذه النظرة الآلية ـ و رغم ما لها من إيجابيات ـ إلا أنها فتحت بعض المجالات السلبية في الممارسات العلمية، حيث أبعدت الطب عن مجاله الإنساني و حولته إلى المجال الاقتصادي و المالي، فقد ابتعد الكثير ممن يشتغلون بالطب عن إنسانيتهم بحثا عما يحققونه من أرباح و لو على حساب صحة الغير..كما أفرزت بعض السلوكات المنحرفة و السلبية مثل الاتجار في الأعضاء الحية للبشر. كما نضيف أن النظرة الآلية هذه غير كافية لتفسير الظواهر الحية إذ يجد العلماء أنفسهم مكتوفي الأيدي أمام ظاهرة الموت الحتمية، التي لا يمكننا من إيجاد تفسير آلي لها دائما و تنبؤ علمي بها إلا بالعودة للتفسيرات الماورائية.
2 ـ نقيض الأطروحة :( ويمثل هذا الموقف الفلاسفة الغائيون).
ينطلق الفلاسفة و العلماء ذوي النزعة الغائية من فكرة أن الظواهر الحية هي ظواهر خاصة لا يجب أن تخضع لنفس المنهج الذي يعتمده العلم في دراساته للظواهر الجامدة التي تفتقد صفة الحياة.
*- مسلماتها و براهينها : - إن الفكرة التي ينطلق منها هؤلاء ، هي " أن الحياة هي جملة الخصائص التي تقاوم الموت " بمعنى أن المادة الحية هي مادة متميزة و خاصة و أن كل وظائف الكائن الحي تخدم غاية فيه و تتمثل في المحافظة على الحياة.فالمنهج التجريبي يصلح لدراسة ما هو ثابت ـ غير متغيرـ بينما الأحياء مغايرة لذلك ما دامت تنمو و تتكيف مع مختلف البيئات والمواضع ـ
+ـ إن الدليل الذي يؤسس عليه هؤلاء موقفهم ، هو أن العلم يسعى لإدراك مختلف الحتميات التي تتحكم في الظواهر ، فالتكرار يؤكد صحة النتائج و يعززها، بينما هذا غير ممكن في الظاهرة الحية، لأننا إذا حقنا الحيوان ، على سبيل الذكر ـ بمادة سامة سنلاحظ مقاومة و تفاعلا لجسمه مع المادة الدخيلة( مثل ما يحصل في تلقيح البشر بمختلف اللقاحات)، لكن عندما نكرر الفعل ثانية سنلاحظ النتيجة قد تغيرت و كلما كررنا الفعل نقصت الأعراض الدفاعية التي يقوم بها الجسم إلى أن تزول كلية و تصبح غير ملاحظة نتيجة لتكيف جهاز المناعة مع المادة و تحكمه فيها.
كما أن هذه المادة تمتاز بنوع من التكاملية الوظيفية، فكل عضو يحتاج بقية الأعضاء و الكل يحتاجه في وظيفته ـ فيستحيل أن يعيش الإنسان من دون قلب أو رئة أو معدة ـ و هذا ما يجعل الدارسين أمام كل مركب و معقد يستحيل فيه الفصل أو عزل الظواهر عن بعضها البعض و في هذا السياق يقول كوفي:"سائر أعضاء الكائن الحي مترابطة...و فصل جزء من الكتلة معناه نقله إلى نظام الذرات الميتة و تبديل ماهيته تبديلا تاما."و هذا ما يجعل العزل مستحيلا. و يترتب عن طبيعة المادة الحية صعوبة أخرى تتمثل في استحالة تعميم النتائج ـ لأن المادة الحية ليست هي هي، و غير خاضعة كما أسلفنا للثبات ـ فالتجربة تؤكد أن جهاز الهضم عند الطفل يختلف عن نفس الجهاز عند الشاب أو الشيخ، كما أن جسم المرأة مختلف عن جسم الرجل...وكل هؤلاء يتأثرون أيضا بالعوامل الطبيعية و البيئية ، وكذا النظام الغذائي المتبع.....و هذه هي كلها عوامل تصعب من مهمة الدراسة العلمية للظاهرة البيولوجية و تجعل التعميم مستحيلا، على العكس عندما نقارن ذلك بما هو فيزيائي أو كيميائي،فلا نجد هذا العائق، فالماء يبقى دائما هو هو لا يتغير و لا يتبدل، و هو عكس الحياة ـ التي لا نجد نموذجا واحدا فيها و لا نمطا واحدا ـ لهذا قال لايبنتز : " لا يوجد شخصان متشابهان". فالواقع يؤكد عدم وجود التطابق التام بين الناس...و في تجربة مماثلة قام عالم الأحياء أغاسيس بجمع حوالي 27000 صدفة بحرية، إلا أنه لاحظ عدم وجود أي تطابق بينها.و هذا ما يجعل التجريب غير ممكن ، ما دامت نتائج الدراسة تبقى خاصة و غير قابلة للتعميم.
بالإضافة إلى هذا العائق الموضوعي الذي يمنع التجريب و يجعله مستحيلا، نجد القناعات البشرية التي ترى أن ممارسة التجريب على الإنسان هو مس بكرامته سواء كان حيا أو ميتا ، و كل ما من شأنه أن يمس بقوانين الحياة سيلقى استنكارا ورفضا شديدين من طرف رجال الدين ، القانون، ناشطي حقوق الإنسان و الحيوان..لهذا يقول أحد المفكرين في هذا السياق:"مؤيدي هذا المشروع ينتهك المعايير التي قامت عليها الحضارات الإنسانية بمختلف مشاربها."
إذن دراسة الظواهر الحية لا يجب أن نركز فيه على البحث عن النظام الآلي للظاهرة بل يجب البحث عن غاياته التي تتجاوز تلك النظرة الضيقة التي تقيس الحياة بنفس مقياس الفيزياء و الفلك و الجيولوجيا.
*- المنــــــاقشــة :إن أصحاب هذا الاتجاه قد انطلقوا من فكرة أن الظواهر الحية ليست ظواهر جامدة، لها من الخصوصية التي تميزها عن غيرها، و هذا ما لا يمكننا إنكاره. إلا أن هذه الخصوصيات المرتبطة بالموضوع هي سنة الحياة في جميع الظواهر لأن الظواهر الفيزيائية لها أيضا خصوصيات تميزها و كذلك بالنسبة لجميع الظواهر الطبيعية الأخرى.فلا يجب أن يكون هذا مبررا لرفض دراسة المادة الحية، بل يجب على العلم أن يتكيف معها و يحاول فهمها و تفسير ظواهرها للتحكم فيها.
إلا أننا نلاحظ أن العلم قد تمكن من تجاوز الكثير من العوائق التي تواجهه إزاء دراسة الظاهرة الحية علميا،و من أبرز هذه العوائق هي تجاوزه للتفسيرات الميتافيزيقية التي بنى عليها أصحاب هذا الاتجاه موقفهم.
3 ـ التركيب :لا يمكننا الجزم أن الظاهرة الحية غير قابلة للدراسة التجريبية العلمية و لا العكس، بحيث نلاحظ أن دراسة هذه الظواهر،هي الأخرى يجب أن ندرسها دراسة علمية تجريبية للوصول إلى القوانين المتحكمة فيها من دون إهمال خصوصياتها المميزة لها.و هذا ما يمارس واقعيا و علميا لأن العلماء يدرسون الظواهر الحية بطريقة تجريبية إلا أنهم يأخذون بعين الاعتبار خصوصياتها سواء من الناحية الموضوعية أو الناحية الأخلاقية. و قد تمكن العلم من تجاوز الكثير من العوائق بتطويره لتقنيات الدراسة ووسائلها التي لا تؤثر عليها.
لكن في نفس الوقت يجب الاعتراف بالخصوصيات الغائية لهذه الظواهر، كون القانون الآلي المتحكم في الظاهرة يبقى مجرد وسيلة لتحقيق غاية أسمى ، و هو ما يجعل العلم بتفسيراته الوضعية غير قادر على تقديم ما هو نهائي في مجال الأحياء.
حـــل المــشكلـــــة :
من خلال ما ذكرنا سابقا وما يفرضه منطق التحليل كحل للمشكلة المطروحة ندرك أن الظواهر الحية على غرار الظواهر الطبيعية الأخرى غير مستثناة من خضوعها لقوانين تتحكم فيها و تسيرها، لهذا علينا معرفتها و دراستها بواسطة التجريب فقط حتى يستفيد علم الأحياء من مزايا العلم و ما وصل إليه من تقدم و تطور في العالم المادي. إلا أن هذا لا يجعلنا ننظر للحياة بنظرة آلية محضة دون أن نأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الظاهرة وتميزها بالحياة و أنها هادفة لغايات لا يمكن للتفسير العلمي المادي أن يلم بها و يفهمها دون التفسير الفلسفي و الديني .