تحليل نص الفن القصصي في رسالة الغفران
الفن القصصي في رسالة الغفران
أحمد درويش
مرحباً اعزائي طلاب وطالبات العلم في موقعنا باك نت يسرنا بزيارتكم أن نقدم لكم تحليل نص الفن القصصي في رسالة الغفران
وهو كالتالي
تحضير الفن القصصي في رسالة الغفران
أحمد درويش
يمثل نص "رسالة الغفران " لأبي العلاء المعري (363-449هـ)واحدا من النصوص الرئيسية في تاريخ النثر العربي خاصة والأدب العربي عامة ، ومن أكثر نصوص هذا الأدب تأثيرا على مسيرة الأجناس والنصوص الأدبية اللاحقة سواء على المستوى المحلي أو على المستوى العالمي.
و" رسالة الغفران " نص شديدا لثراء تتنازعه مجالات عدة مثل تاريخ الأفكار، وعلوم اللغة ، والمذاهب الفلسفية ، والمعتقدات الدينية ، وتاريخ الشعر وغيرها من المجالات المتشابكة التي حظيت بعص اهتمامات الدارسين من قبل ، من خلال الحوار مع تجلياتها في رسالة الغفران ، لكنه أيضا نص ينتمي الى تاريخ الفن القصصي الخلاق ، الذي أسهم أبو العلاء بنصيب واخرفي تطويره من خلال نص الغفران .
وهو نص وهب الامتاع القصصي دون شك للمنتمين الى عصره وثقا فته ، وهو قابل لأن يهب مزيدا من الامتاع للمنتمين الى عصور أخرى ودرجات من الثقافة مختلفة من خلال الحوار الفني معه . والمجال الذي اختارته "رسالة الغفران " مجال مبتكر يتعلق بعالم الغيب ومحاولة ارتياده واطلاق الحرية للخيال وللغة وللعلاقات بين الأزمنة والأمكنة وتذويب الفواصل بين الجمادات والكائنات الحية العجماء أو الناطقة ،وخلق متعة فنية ، من خلال هذا كله - للنثر المجنح في رحاب عالم اللغة ، متكئا أحيانا عل اختبار خيال الشعراء ليثبت قصوره في المواقف التي تفوق الخيال ،وعل ذاكر تهم ليثبت أنها قد تتلاشى أمام عصف الأهوال .
واللافت للنظر في البدء أن اختيار "الثوب القصصي" لم يكن حتما على كاتب نص "الغفران " فالنص يندرج في إطار أدب "الجواب " لأنه جواب عل رسالة ابن القارح ، وأدب الجواب يحكم غالبا بمبدأ المشاكلة ، فعندما يكون السؤال قصيدة أو أر جوزة أو مقامة أو رسالة أو لغزا، يكون التحدي المطروح عل المسؤول أن يجيب سائله من جنس بيانه ، ولم تكن رسالة ابن القارح لأدبي العلاء قصة حتى يكون الثوب القصي حتما في الرد عليها، وانما كانت خواطر شيخ حلبي قادته أعوامه الثمانون الى التأمل فيمن أغرتهم متع الحياة وغفلوا عن التوبة في حينها وقد عدد كثيرين منهم في تاريخ الفكر والشعر، وراعه السؤال المخيف : "كيف يصنع من عنده أن التوبة لا تصح من ذنب مع الاقامة على آخر؟ فلا حول ولا قوة "(1) . هل فتح هذا السؤال أمام أبي العلاء باب التحول من الحال الى المال من الندم الى الغفران ، فكانت هذه القفزة القصصية الرائعة ؟
إن حركة القاص في مثل هذه الحالة لتبدو أكثر صعوبة من حركة القاص الذي يختار نقطة البدء بنفسه دون أن يكون قصه جوابا ،ودون أن يكون خياله صدى لواقع يحاوره ، واذا كانت هذه الصعوبة تجابه نقطة البدء في النص القصصي للغفران ، فإن صعوبة أخرى أكثر حساسية كانت تجابه نقطة الانطلاق والحركة ، ذلك أن العالم الذي تم اختياره لتنمو فيه "الحكاية " كان عالم الدار الآخرة ، وهو عالم لم تكن الصورة عنه محايدة في درجة الصفر يستطيع خيال القاص أن يشكلها كما يشاء، ولكنها كانت مملوءة بالتصور الديني في النصوص المقدسة وامتداداته في تأويلات الوعاظ والحكائيين مما يتطلب من القاص مهارة خاصة ينبغي أن تتبدى في طرافة الحركة الخيالية وجدتها من ناحية ، وعدم اصطدامها بالثوابت من ناحية ثانية .
ولقد تبدت براعة أبي العلاء المعري في تناول الخيطين معا بين أصابعه منذ العبارات الأولى التي بدأ بها رده عل رسالة ابن القارح لكي ينمو بالرد الى قصة الغفران ، كان مفتاح الرد عنده هو عبارة : "الكلمة " وهو مصطلح يمتد عند أبي العلاء فيشمل "الرسالة " كما يشمل القصيدة (2) والكلمة هنا وقد أطلقت عل رسالة ابن القارح تتحرك تحركا استعاريا على مستويين ، أولهما المستوى الرأسي ومن خلاله يكون الكلم الصالح قابلا للصعود الى الملأ الأعلى :"ولعله ، سبحانه ، قد نصب لسطورها المنجية من اللهب ، معاريج من الفضة أو الذهب تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة الى السماء ، وتكتشف سجوف الظلماء بدليل الآية "اليه يصعد الكم الطيب والعمل الصالح يرفعه " ، ومن خلال هذا التصعيد الرأسي ، تصبح كلمات الرسالة قابلة لأن تصعد الى الملأ الأعلى وأن تحمل صاحبها معها.
أما المستوى الثاني للنمو، الذي يمهد للدخول الى العالم القصص ، فهو مستوى "الترشيح " وهو تقنية معهودة لدى البلاغيين العرب يتم من خلالها النمو بالمشبه به أو المستعار منه والا يغال من خلاله في عالم (3) الخيال وأبو العلاء يلجأ الى هذه التقنية عندما يجعل الكلمة الطيبة شجرة لها أصول ثابتة وفروع سامقة وثمار يانعة في كل حين : "وهذه الكلمة الطيبة كانها المنية بقوله :"ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها(5).
ويهذين المستويين من النمو جعل كلمات الرسالة التائبة أجنحة صعدت الى عالم الغفران وشجرا غرس في تربته وامتدت فروعه في أرجائه وأينع ثمره وآتى أكله . ولقد فتح ذلك "الترشيح " باب النمو التخييلي فأغصان الشجر وظلاله تستدعي المستظلين به : "والولدان المخلدون في ظلال تلك الشجرة قيام وقعود ... يقولون : ... نحن وهذه الشجر صلة من الله لعلي بن منصور، تخبأ له الى نفخ الصور"(6)أ، وأصل الشجر الثابت يستدعي ما يغذي نباته من المياه والأنهار "وتجري في أصول ذلك الشجر أنهار تختلج من ماء الحيوان ، والكوثر يمدها في كل آن (7).
والأنهار الجارية تستدعي ما يسبح فيها ومن يجلس على شواطئها ومذاقها المتميز خمرا وعسلا ويستدعي ذلك ما قبل في الدنيا وأوانيها ومصير الشعراء الذين قالوا وسؤالهم عن المقارنة بين ما رأوا هنا وهناك ، وهكذا تتسع القاعدة "الترشيحية " لتصبح أصلا يتم التحرك خلاله والنمو به لصنع عالم حكائي مكتمل يتوالى توالد الحكايات فيه من منابع مختلفة ، حقيقية أو تخييلية أو أسطورية من جهة وانسانية وملائكية وشيطانية وحيوانية وجما دية وطبيعية من جهة أخرى، كما يتم تقديمها متداخلة أو مستقلة من خلال معارض حكائية متنوعة بدءا من الاستعارة الموحية الى الشريحة القصصية الى الموقف القصصي الى القصة المكتملة .
إن اللغة التي يناط بها أن تسوغ هذا العالم الحكائي الغريب لكي تفر به من خيال سامع لم يره ، وتنقل اليه شيئا "لم يخطر على قلب بشر" لغة من شأنها أن تستعين بكثير هن أجنحة "الحرية " وأن تفك كثيرا من الارتباطات التي استقرت بين الدوال والمدلولات وبين المفردات بعضها والبعض الآخر وبين الخصائص التي ارتبطت بأنواع من الكائنات حتى أصبحت من لوازمها منطوقا ومفهوما، وذلك ما حاول أن يقدمه النص القصصي لرسالة الغفران.
لقد أشار أبو العلاء في مرحلة مبكرة من النص الى أن نمط " القول " الذي يرد في نصه ، أشبه بلغة الأحلام :"وهذا فصل يتسع " وانما عرض في قول نام ، كخيال طرق في المنام (8) وهكذا الحكم وحده يحرر اللغة ، من مثير من قيود الترابط المألوفة . غير أن ومحدودية اللغة البشرية في نهاية المطاف ومحدودية المعنى المتصور في ذهن السامع 0 من خلال خبرته البشرية ، تضع أمام القاص ، المجنح عقبة أخرى، فهو إذا أراد مثلا أن يصف "العسل " في عالم ما وراء الغيب فيما ~ تشير اليه الآية الكريمة "وأنهار من عسل مصفى" وجد أنه في خلد السامع يشير الى شي ء حلو المذاق وأن الشعراء يستلهمون المعنى في المواقف المعنوية العذبة في مثل قول الحارث بن كلدة :
فما عسل ببارد ماء مزن
على ظمأ لشاربه يشاب
بأشهى من لقيكم إلينا
فكيف لنا به ... ومتى الاياب
ولكنه يحس بأن عسل الجنة تفوق لذته آلاف المرات ما تحتمله كلمة "العسل "، البشرية ، فيريد أن يلجأ الى "تحرير" الكلمة من محدودية الدلالة وأن يفك عقالها ، فيلجأ الى كتامة نوع من "التضاد" بين المدلول الراسخ والمدلول الجديد في المناخ الجديد، فيكون موقع "العسل " السائد من مدلوله المستحدث كموقع الزفت والقطران من الفالوذج ، يقول : "ولو أن الحارث بن كلدة طعم من ذلك الطريم (العسل ) لعلم أن الذي وصفه يجري من هذا المنعوت مجرى الافل "الزفت " الشاقة من الرعديد (الفالوذج الرجراج ) (9). وكذلك الشأن مع كلمة "السلوى" التي يستخدمها الشعراء فإذا ما قورنت بالسلوى في عالم الغيب كانت أشبه بشجر القار المر النابت في الرمال (10).
والقاص الذي يتكرر منه هذا الصنيع في مواقف مختلفة يسعى الى أن يحرر اللغة _ وهي اداته الرئيسية في بناء عالمه الجديد - من القيود التي تحد من مدلولاتها في الذهن - وأن يسد الفجوة بين الطاقة المتنافية للمفردات اللغوية في الاستعمال البشري والطاقة غير المتنافية للخيال الأخروي.
إن "الحرية " مفتاح رئيسي لفهم بعض أسرار الروعة والابهار في عالم أبي العلاء القصصي، وهي حرية تعود معها الكائنات في خيال القصاص الى عجينتها الأولى فتكون قابلة لاعادة التشكيل واستكمال النواقص واقصاء المألوف ، وتلك واحدة من مفاتيح الفن العظيم في كل زمان ومكان ، فهذه رحلة القنص التي يقوم بها ابن القارح ومعه عدي بن زيد في الجنة وهما يطاردان قطيعا من البقر والحمر الوحشية على سابحين من خيل الجنة فإذا ما اقتربت أطراف السنان من ذيل بقرة ، تكلمت(11) : "امسك رحمك الله ، فإني لست من وحش الجنة التي أنشأها آلله ولم تكن في الدار الزائلة ولكنني لحت في محلة الغرور (الدنيا) أروا في بعض القفار ، فمر بي ركب مؤمنون قد كرى زادهم فمرعوني واستعانوا بي على السفر فعوضني الله بأن أسكنني في الخلود" وعلى النحو نفسه يتحدث حمار الوحش عندما يوشك أن يصاد ليخبر أنه دخل الجنة لأن جلده صنعت منه القراب فشرب منها الصالحون وتطهروا (12) . وما دامت البقرة والحمار قد كسرا قيد الصمت ودخلا عالم الكلام فإن "من شأن طير الجنة ، ان يتكلم (13) كما يقول ابو العلاء في صورته القصصية الجميلة التي يقدمها لركب الأوز الذي مر على روضة في الجنة فيها ابن القارح وجماعة معه فيقلن :"ألهمنا أن نسقط في هذه الروضة فنفني لمن فيها ... فينتفضن فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة ، وبأ يديهن المزدهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي فيعجب وحق له العجب ، وليس ذلك ببديع من قدرة الله جلت عظمته " ولسوف تتألق فرقة الراقصات من الأوز ، العازفات البارعات ويصمدن أمام كل اختبار في الموسيقى يطرح عليهن ، ويعزفن بكل لحن معهود أو غير معهود ، ويبدين من ألوان الجمال والدلال ، ما يجعل ابن القارح يقترح على النابغة الجعدي . وكان في حالة غضب إثر نقاش حاد جرى بينه وبين الأعشى _أن يتمتع باحدي هؤلاء الحوريات قائلا(14) "يا أبا ليلى إن آت جلت قدرته من علينا بهؤلاء الحور العين اللواتي حولهن عن خلق الأوز ، فاختر لك واحدة منهن فلتذهب معك ال منزلك ، تلاحنك أرق اللحان وتسمعك ضروب الألحان ، فيقول «لبيد بن ربيعة » إن أخذ أبو ليل قينة وأخذ غيره صكها، أليس ينتشر خبرها في الجنة فلا يؤمن أن يسمى فاعلو ذلك أزواج الأرز؟ فتضرب الجماعة عن اقتسام أو - القيان ",.
إن قدر الحرية المتاحة أمام التشكيل الحكائي يتسع فلا يصبح وقفا على كسر حاجز الصمت ، وتفجر اللفة على لسان العجماوات ، ولكنه يتقداه الى كسر حاجز "الصورة الثابتة " والانتقال الى طواعية التشكيل وهي حرية تفجر ما لا نهاية له من الصور المحتملة ، وتتحول معها أحلام الاستعارات في اللغة الى مواقف قصصية رائعة ، ألم تربط اللغة في استعاراتها طويلا بين الأنثى والفاكهة فكان التفاح في الخدود والرمان في الصدور والورد في الشفاه والعنم في أطراف الأصابع وغير ذلك مما أبدعته استعارات اللغة ؟ إن حرية التشكيل تتجاوز ذلك الموقف الاستعاري لتجعل القاص يحدثنا عن "الفاكهة الأنثى" وعن شجر في الجنة يعرف بشجر الحور: "يجيء الى حدائق لا يعرف كنهها الا آلله فيقول له الملك : خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور، فيأخذ سفرجلة أو رمانة أو تفاحة أو ما شاء اشر من الثمار فيكسرها فتخرج منها جارية حوراه عيناها تبرق لحسنها حوريات الجنان ، فتقول : من أنت يا عبدالله فيقول :أنا فلان ابن فلان ، فتقول : إني أمني النفس بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة الآن سنة "(15).
ولا تقف حرية التشكيل التي يطلقها القاص من عقالها، عند حد رؤية الأشياء على غير ما ألفت عليه في الواقع الجامد، حيوانات تتكلم ، واوز تفني وتعزف وترقص ، وحوريات يخرجن من ثمار السفرجل والرمان والتفاح ، وانما تتعدى ذلك الى نقل جانب من هذه الطاقة التي هي للخالق وحدث الى المخلوق الصالح ، فيكون في طوق هذا المخلوق في الجنة أن يشكل المخلوقات التي يحبها عل ما يهوى ، هذا هو ابن القارح وقد منح واحدة من حوريات "الفاكهة الأنثى" يخطر في باله وهو ساجد انها ربما تكون _ على حسنها _ ضاوية الأرداف ، فإذا به وقد قام من سجوده يجدها ذات أرداف لا نهاية لها فيتمنى أن تصفر عن ذلك "فيقال له : أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء فيقتصر من ذلك على الارادة (16).
يتبع في الأسفل