0 تصويتات
في تصنيف مقالات ونصوص فلسفية باك 2024 بواسطة (627ألف نقاط)

مقالة شاملة حول العقل والنقل في الفكر الإسلامي بطريقة جدلية العقل والنقل في الفكر الإسلامي

أقوال الفلاسفة عن العقل والنقل في الفكر الإسلامي 

مع الآيات 

  جدلية العقل والنقل في الفكر الإسلامي

مقالة جدلية هل يمكن التوفيق بين العقل والنقل

بسم الله الرحمن الرحيم

العقل من أكثر الأشياء توزعا بالتساوي بين الناس قاله الفيلسوف الرياضي ديكارت، فماذا يعني ديكارت بالعقل هنا؟! أي ماذا يعني بالعقل الذي يتساوى فيه الناس، بحيث يستحيل التفاضل بينهم، فهل صحيح أن الناس في العقل والتعقل ومن ثم في الفكر والتفكر سواء؟ إذا ما السر في هذا الاختلاف والتنازع بين الناس منذ بداية الخليقة وإلى يومنا هذا؟! لما هذا الجدال والحوار بين طوائف الناس وآحادهم في قضايا كثيرة اختلفت فيها أنظارهم وتباينت فيها أفهامهم؟!

نحتاج هنا إلى معرفة العقل وهل هو أنواع وأقسام؟ أم شيء واحد يتفق فيه الناس؟ هذا القضية إذا عولجت يمكن أن نختصر بها الطريق الطويل الوعر..

وما قيل في العقل يمكن أن يقال مثله أو نحوه في النقل (الكتاب والسنة). فالنقل ألفاظ ودلالات، يخاطب بها العقل الإنساني، فهي تفتقر إلى بيان المتكلم وفصاحته وحسن قصده ووضوح نيته؛ من حيث إنه يريد الإرشاد لا الإضلال، ويريد الإيضاح لا الإلغاز، كما تفتقر إلى صحة الفهم لدى المخاطَب وتمكنه من معرفة لغة المتكلم، ألفاظها ودلالات تلك الألفاظ، وتفتقر ـ أيضا ـ إلى نية سليمة لدى المخاطَب بعيدة عن العناد والمكابرة.

وهل دلالات النقل كلها على نسق واحد بحيث تدل على معنى واحد لا اختلاف فيها ولا تباين، أم أن هذه الدلالات هي أنواع وأقسام تفتقر إلى آلات وعناصر تساعد المخاطَب على معرفة لغة المتكلم ومقاصده منها؟!

العقل هو من صنع الله تعالى والنقل هو من كلام الله تعالى، فهل يتعارض ما صنع الله تعالى مع ما قاله؟! هذه إحدى ركائز هذه المسألة (جدلية العقل والنقل) فلا يجرؤ مسلم أو عاقل على الإجابة بالإثبات، فالإنسان الحازم يترفع أن يعارض قوله فعله، وأن يصادم فكره سلوكه، فكيف يُنسب ذلك إلى خالق البشر، المتصف بالكمال والجلال، وبتمام العلم وكمال الحكمة (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)(النمل: من الآية88)

إن جدلية العقل والنقل مسألة قديمة جديدة ومتجددة، لكنها كثيرا ما توضع في غير وضعها الصحيح، فتارة يُسمى ما ليس عقلا عقلا، مثل الظنون والأوهام والأهواء والشهوات والأغراض الشخصية، وتارة تعمم أحكام الظنية على نصوص الشرع كلها مع الاعتراف أن في الشرع ماهو ظني الثبوت وكثيرا مما هو من ظني الدلالة، لكن خطر التعميم يوقع في إشكالات، وتارة يعتبر العقل مؤسسا للنقل وقاعدة له وهذا قد يصح بوجه، لكن المولعين بالدراسات الفلسفية ينسفون بهذه المسألة كثيرا من دلالات النصوص الشرعية وإن كانت قطعية الثبوت قطعية الدلالة..

وأخيرا فإني أرجو لورقتي هذه أن تكون محاولة في فك الارتباط بين هذه التعقيدات، سائلا الله تعالى لي وللجميع التوفيق والتسديد.. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

تعريف العقل في اللغة والاصطلاح:

تعريفه لغة: العقل مصدر عقل، يعقل، عقلا، فهو معقول، وأصل معناه المنع والإمساك، ومنه عقل البعير لمنعه من الهرب، ويطلق على الملجأ والحصن، وكذا القلب؛ ومنه قول عمر في ابن عباس رضي الله عنهما: ذاكم فتى الكهول، إن له لسانا سؤولا، وقلبا عقولا.

تعريفه اصطلاحا: عرف بعض العلماء ـ ومنهم أبو الوليد الباجي

 ـ العقل بالعلوم الضرورية التي تقع ابتداء وتعم جميع العقلاء.

وعلى هذا التعريف: فلا تفاضل يكون بين الناس أو العقلاء من جهة العقل، فلا يقال فلان: ذو عقل، أو فلان: عقول، وهذا أمر لا ينطبق مع واقع الحال.

ولعل الصحيح أن يقال: العقل أوسع من ذلك، فهو يشمل العلوم الضرورية والعلوم المكتسبة، والتي تحصل بالتعلُّم والتفكُّر. ويعجبني ما ذهب إليه أبو حامد الغزالي وابن تيمية وغيرهما من أن العقل يقع بالاستعمال على أربعة معان[3]: الغريزة المدركة، والعلوم الضرورية، والعلوم النظرية، والعمل بمقتضى العلم.

أما الغريزة المدركة فهي في الإنسان كقوة البصر في العين، والذوق في اللسان، وهي شرط في المعقولات والمعلومات، وهي مناط التكليف، فلولاها ما كان تكليف ولا أمر ولا نهي، وبها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان.

وأما العلوم الضرورية فهي التي تشمل جميع العقلاء؛ كالعلم بالممكنات والواجبات والممتنعات، وهذه علوم فطرية، تولد مع الإنسان، ولا يتميز بها فرد عن آخر.

وأما العلوم النظرية فهي التي تحصل بالنظر والاستدلال، ويتفاوت الناس فيها ويتفاضلون.

وأما الأعمال التي تكون بموجب العلم فقد جاءت الإشارة إليها في الكتاب العزيز: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:10]. أي سمع انتفاع وعقل انتفاع، وإلا فهم يملكون آلات الاستقبال، لكنهم لم ينتفعوا بها في تحصيل الحق والخير. ولهذا قال الأصمعي: "العقل: الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن".[4]

وهذا المعنى الأخير ينبغي التأكيد عليه فهو الذي يغفل عنه الكثيرون، مع أنه ثمرة العقل وفائدته، فالذين خالفوا الشرع هم بالضرورة قد خالفوا العقل، والذين خالفوا العقل هم بالضرورة قد خالفوا الشرع.

وعليه، فإن أريد بالعقل العلوم الضرورية فلا تفاوت فيها بين الناس، ولعل هذا ما قصد إليه نظار المسلمين ومتكلموهم ووافقهم فيه بعض الفلاسفة الغربيين مثل ديكارت

، وذريعتهم في ذلك أن العقل حجة عامة، إليه يرجع الناس عند الاختلاف، ولو تفاوتت العقول وتفاضلت لما حصل لهم رفع الاختلاف والتنازع!

نعم نحن نحتاج إلى العلوم الضرورية الفطرية لنحاكم إليها العلوم النظرية الكسبية، حتى يرتفع الخلاف بين الناس، بل لولا وجود العلوم الضرورية لدى الناس بدرجة متساوية لما عرف الناس الحق والصواب فيما يختلفون فيها، ولهذا كان من حكمة الله تعالى في خلقه أن ركب في فطرهم هذه العلوم الضرورية، أما قصر العقل عليها ربما لا يتفق، بل العقل يشمل المعاني الأربعة التي تقدم ذكرها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "...ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن..."[6] مما يدل على التفاوت، بل هو دليل على تفاوت العقل الغريزي أيضا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن جنس النساء فيه نقصان العقل، وهذا لا يكون إلا في الغريزة التي خُلقن بها؛ ولأن التفاوت في الجانب الكسبي فرع عن التفاوت في الجانب الغريزي.

عناية الإسلام بالعقل:

إن عناية الإسلام بالعقل وتكريمه له بالمحل الذي لا يخفى، حيث جعله مناط التكليف؛ فلا تكليف على غير عاقل، ومن تكريمه له أن وجهه للنظر في الأنفس والآفاق: اتعاظا واعتبارا، وتسخيرا لنعم الله والإفادة منها، ليمارس وظيفته الريادية في تطور الحياة وتقدمها، ومن تكريمه له أن جعل أن أمره بالنظر في كلماته الشرعية قياسا واستنباطا، ومن تكريمه له ـ أيضا ـ أن أمسكه عن الولوج فيما لا يحسنه، ولا يهتدي فيه على سبيل؛ رحمة به، وإبقاء على قوته وجهده أن يضيع ويتبدد. وتفصيل هذه الجملة في الآتي:

أولا: خص الله تعالى أصحاب العقول بالمعرفة التامة لمقاصد العبادة، وحِكم التشريع {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:179].

ثانيا: قصر سبحانه الانتفاع بالذكر والموعظة على أصحاب العقول: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}[البقرة:269] وقال {َقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف:111].

ثالثا: ذم الإسلام التقليد للآباء والأجداد ونحوهم لأنه إلغاء للعقل، وتنكر لأحكامه؛ قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ{170} وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ{171}[البقرة]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا".[8]

رابعا: منع الإسلام من الاعتداء على العقل حسيا ومعنويا؛ حسيا حيث جعل الإسلام دية العقل دية كاملة، فيمن ضُرب على رأسه فذهب عقله؛ قال ابن قدامة: لا نعلم في ذلك خلافا.[9] وأما معنويا: فقد حرَّم الإسلام شرب الخمر ومثله كل مسكر يغيب العقل ويعطله عن أداء وظيفته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[المائدة90] وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر".[10]

خامسا: شدد الإسلام النكير على تعاطي ما تنكره العقول، وتنفر منه؛ مثل: التطير، والتشاؤم بشهر صفر ونحوه، والتنجيم، أي الاستدلال بحركة النجوم على السعد والنحس، وكذا حرم إتيان الكهان والعرَّافين، وحرم تعليق التمائم ونحوها..

هذا، مع ما أمر به الشارع العبد من الأخذ بأسباب القوة، والتوكل على الخالق، كما قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".[11]

العقل أحد مصادر المعرفة:

العقل في الإنسان كغيره من الصفات الكمالية، فهي وإن كانت كمالا في حق الإنسان، إلا أن لها حدودا لا تتجاوزها، وأقدارا لا تتخطاها، فالإنسان ذاته مخلوقة، وصفاته كذلك، يعتريها ما يعتري المخلوق من القوة والضعف والخور، والوجود والعدم، والعقل جعل الله تعالى له حدا ـ في إدراكه الأشياء ـ ينتهي إليه، لا يتعداه، فلم يجعل له سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كان كذلك لتساوى مع العليم الخبير سبحانه، في إدراك جميع ما كان وما يكون، وما لا يكون إذ لو كان كيف يكون، ولو كان العقل يدرك كل مطلوب لاستغنى الخلق به عن الوحي والنبوات، ولسقطت الحاجة إليها رأسا.

والمقصود بالإدراك هنا العلم بالشيء، بذاته جملة وتفصيلا، وصفاته وأحواله، وأفعاله، وأحكامه، جملة وتفصيلا، فالله تعالى محيط بكل ذلك على وجه التمام والكمال، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة منه، والعبد بخلاف ذلك، فهو وإن أدرك فإدراكه يكون لبعض ذلك، وهذا البعض فيه قصور وضعف، من غفلة أو نسيان، أو جهل، أو عدم إحاطة، إلى غير ذلك من أحوال الضعف والقصور.

والعقل إنما يستند في أحكامه إلى معطيات الحس، التي تأتيه عبر رسله؛ كالسمع والبصر، وغيرهما من الحواس، وهذه تنقل ـ بدورها ـ مدركاتها عن أشياء موجود مشهودة، تقع عليها الحواس مجتمعة أو منفردة، فيقوم العقل بعملية التركيب والتحليل، والتجميع والتفريق، وقياس الأشباه والنظائر، ثم استنباط القواعد، واستخراج النتائج، واستصدار الأحكام، وهو في كل هذا العمل إنما يعتمد على معطيات حسية، لها وجود مشهود، ولو تعدى هذا المجال لنطق بغير علم، وحكم من غير هدى.

أقسام العلوم: تنقسم العلوم من حيث إدراك العقل لها إلى ثلاثة أقسام:

الأول: العلوم الضرورية:وهي التي لا يمكن التشكيك فيها، إذ إنها تلزم جميع العقلاء ولا تنفك عنهم، كعلم الإنسان بوجوده، وأن الاثنين أكثر من الواحد، واستحالة الجمع بين النقيضين، أو رفعهما، إلى غير ذلك مما يسمى بقوانين العقل الضرورية.

الثاني: العلوم النظرية: وهي التي تُكتسب بالنظر والاستدلال، وهذا النظر لا بد في تحصيله من علم ضروري يستند إليه، حتى يُعرف وجه الصواب فيه، وهذا القسم تدخل فيه كثير من العلوم، كالطبيعيات والرياضيات والطب والصناعات، وهو نوعان: نوع يتمحض العمل فيه للعقل، وهذا عادة يكون في العلوم المفضولة، مثلما تقدم ذكره، والآخر يكون بالنظر في أدلة الشرع، وبذل الوسع لإقامة العبودية، قال الشافعي رحمه الله في قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16]. "فخلق لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام وأمرهم أن يتوجهوا إليه، وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات، وكل هذا بيان ونعمة منه جل ثناؤه".[12]

الثالث: الغيبيات: وهذه لا تُعلم بواسطة العقل، إلا أن يُعلَّمها، بأن يجعل له طريق العلم بها، والغيبيات على نوعين: أحدهما: ما كان من قبيل ما يعتاده علم الإنسان؛ كعلمه بما تحت قدميه، وعلمه بالبلد القاصي عنه، الذي لم يتقدم له به عهد. والثاني: ما خرج عن العادة كالعلوم التي تتعلق باليوم الآخر من برزخ وبعث ونشور وحساب وجزاء وتفاصيل ذلك، فهذه الغيبيات على نوعيها تُعلم عن طريق الخبر، سواء خبر العالم بها؛ يخبر الجاهل بها، أو تُعلْم بخبر الشارع، وقد يسمى الأول بالغيب النسبي، والثاني بالغيب المطلق، وهو الذي اختص الله بعلمه.

وعليه، فإن كثيرا من مسائل الاعتقاد لا تدركها العقول ابتداء ـ لا سيما على التفصيل ـ إذ سبيل معرفتها الوحيد هو الوحي، فالعقول ما كانت لتعلم بها لولا مجيء الوحي بها، وذكره لأدلتها العقلية، أما المسائل الكبار من الإقرار بوجود الله تعالى وتوحيده وصدق النبوات ونحو ذلك، فإن النفوس مفطورة على معرفتها، وإنما المقصود هو تفاصيل هذه المسائل، فالعقل لا يدركها إلا عن طريق خبر الأنبياء.

يتبع في الأسفل 

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (627ألف نقاط)
 
أفضل إجابة
العقل والنقل في الفكر الإسلامي

أما إمكان وجود مسائل الغيب، فالعقل يُقر به، ولا يُحيله، لأن الإمكان الخارجي قد يكون بعلم العبد بوجود الشيء نفسه، أو وجود نظيره، أو وجود ملزومه، أو وجود شيء أبلغ في الوجود من ذلك الأول، ولهذا ضرب الله الأمثال في القرآن الكريم لتقرير مسائل الغيبيات، تنبيها للعقول على إمكان وجودها: فاستدل بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، وبخلق السموات والأرض ـ وهي أعظم وأبلغ في القدرة ـ على خلق الإنسان، وبإحياء الأرض الميتة على البعث بعد الموت إلى غير ذلك من الأمثال المضروبة..

ففرق بين العلم بإمكان وجودها والعلم بوجودها، فالأول يُقر به العقل؛ إذ ليس فيما أخبر الله به ما يعارض قوانين العقل الضرورية، وأما العلم بوجودها فغير ممكن لأنها مما اختص الله بعلمها، فالعقل لا يعلمها ابتداء إلا أن يُعلَّمها..

فالعقل لا غنى عنه، سواء في مسائل الاعتقاد أو مسائل الأحكام؛ لكن المقصود به العقل الصحيح، وهو ما اتفق عليه العقلاء؛ إذ هو مناط التكليف، وبه يكون النظر في آيات الله الكونية، وآياته الشرعية، النظر في الآيات الكونية اتعاظا واعتبارا، والنظر في الآيات الشرعية استدلالا واستنباطا على ما هو معروف في مناهج الاجتهاد والقياس.

العقل والنص الشرعي:

إن العقل خلقه الله تعالى وجعل من وظائفه أن يفهم عنه، ويعقل دينه وشرعه، فلا يجوز في حقه أن يرد شيئا من الوحي (النص) بحجة أنه يخالف قضية العقل، بل الشريعة كلها بأخبارها وأحكامها ليس فيها ما يُعلم بطلانه بالعقل، بل العقل يشهد بصحتها على الإجمال والتفصيل.

أما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديق النبي صلى الله وسلم في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة.

أما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل، بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا، وما قصر العقل عن دركه من مسائلها؛ فهذا لعظم الشريعة وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن دركها؛ فالشريعة قد تأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها.

فالله تعالى أنزل الكتاب والميزان ـ ومن الميزان قياس العقل ـ فهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تعارض ولا تناقض بينهما.

وكل ما يقال فيه إنه تعارض فيه العقل والنص، أو العقل والنقل؛ عند التأمل نجد أن النص لم يعارض إلا أوهاما وظنونا، أو أهواء وشهوات باطنة وأغراض خاصة، وهذا ما يتعلق به أصحاب البدع، وأصحاب السياسات الفاسدة.. وما جاء الدين إلا لفضحهم وكشف عوارهم حتى يكون الدين كله لله.. وتأمل ذلك في مزاعم محرفي النصوص المتصلة بالمعارف الإلهية، وبأحكام البرزخ، وأحكام الآخرة من ميزان وصراط ونحوهما، عند التأمل لا تجد إلا عجز العقل عن الإدراك، لا منع العقل للإدراك، وفرق بين الأمرين كما تقدم.

وتأمل ما عارضوا به بعض نصوص الأحكام، مثلما قالوه في قضايا الحدود، والمرأة، والحرية، والجهاد، لا تجد إلا غلبة الهوى، وسيطرة الشهوة، وتحكُّم الأغراض، وإلا فجميع ما ذكره الشارع في هذه المجالات وغيرها مما تستريح له الفطر السلمية، وتتجاوب معه العقول الصحيحة..

بل إن كثيرا ممن اختاروا الإسلام دينا، وارتضوه منهجا ونظاما، في قديم الدهر وحديثه، إنما فعلوا ذلك بعدما أبهرتهم أنوار آياته، وشدَّهم إليه عدل أحكامه، فوجدوا في فطرهم وعقولهم ما يجعلهم يشهدون بشهادة الحق، ويستجيبون لهداية السماء.. وما أكثر الشواهد على ذلك في تاريخنا المعاصر، حيث عصر العلم وانفجار المعلومات!!

ويعجبني أن لا يُسمى ما يعارض به الشرع عقلا، بل هو الهوى والشهوة والظن، وعليه، فلا ينبغي أن يسمى المعارضون للشرع بالعقلانيين ولا بالمستنيرين، فإن ذلك مدح لهم، وثناء عليهم لا يستحقونه، فليس في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف تسمية معارضة الوحيين بالعقلي ولا بالعقلانية، ولا تسمية أصحابها بالعقلاء، قيل لرجل وصف نصرانيا بالعقل: مه، إنما العاقل من وجد الله وعمل بطاعته.[13] وقال الشهرستاني في أول كتابه الملل والنحل[14]:"إن أول شبهة وقعت في الخليقة: شبهة إبليس (لعنه الله) ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خُلق منها وهي النار، على مادة آدم (عليه السلام) وهي الطين". وقد قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }[النجم23].

أسباب توهم التعارض:

توهم تعارض العقل والنقل، أو العقل والنص، أو العقل والشرع، سببه أحد ثلاثة أمور:

الأول: أن لا تكون المسائل من الأمور البينة المعروفة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة ونحو ذلك.

الثاني: أن يكون النقل المستدل به مكذوبا موضوعا يعلم ذلك أهل الصناعة والمعرفة بالحديث.

الثالث: أن يكون النقل أو النص صحيحا لكن غلط المستدل في الاستدلال به.

قال ابن القيم في نونيته[15]:

فإذا تعارض نص لفظ وارد

والعقـــل حتى ليس يلتقيان

فالعقل إما فاسد ويظنـــه

الرائي صحيحا وهو ذو بطلان

أو أن ذاك النص ليس بثابت

ما قاله المعصوم بالبرهــان

مثال الأول: وهو أن يكون العقل ليس صحيحا أو ليس صريحا، وذلك أن عامة موارد النزاع من الأمور الخفية المشتبهة، والتي يحار فيها كثير من العقلاء، كمسائل الأسماء والصفات الإلهية، وأحوال ما بعد الموت ونحوها مما هو من مسائل الغيبيات، فالخائضون في مثل هذه الأمور بمحض الرأي: إما متنازعون مختلفون، وإما حيارى متهوكون.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولقد تأملت في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها، بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يُعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط.

بل كل ما يُحتج به مما يسمى معقولات في معارضة النصوص تجد له معارضا آخر من المعقولات مما ينفي عنه صفة القطع والضرورة التي يدعيها له أصحابه..

فمثلا؛ من احتج على إنكار الصفات الإلهية أو تأويلها خوفا من تعدد القدماء، فقد احتج بمعقول غير صحيح؛ إذ إنه لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات، بل ذلك من أعظم الممتنعات العقلية، فضلا عن أنه يستلزم رفع النقيضين: الوجود والعدم، ومعلوم عقلا أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان.

ومثال الثاني: وهو أن يكون العقل صحيحا صريحا لكن يكون النقل مكذوبا موضوعا، وذلك بسبب تقصير الناظر في التحقق من صحة النقل بعد تيقنه من صحة العقل، فيظهر لديه التعارض، وإنما هو تعارض بين دليل صحيح وهو العقل ودليل فاسد وهو النقل، والفاسد لا يصلح أن يكون دليلا فضلا عن أن يُعارض به الدليل الصحيح، بل الواجب تقديم الدليل الصحيح نقلا كان أم عقلا..

ومثال الثالث: وهو أن يكون النقل صحيحا لكن غلط المستدل في الاستدلال به، فيظهر التعارض نتيجة الفهم القاصر، فالتقصير في معرفة النقل تارة يكون في معرفة طرقه، وتمييز الصحيح من السقيم، وتارة يكون في معرفة دلالته وتحقيق معانيه. فعدم إدراك الدلالة الصحيحة للنقل من أسباب ادعاء التعارض بين المعقول والمنقول.

مذهب المتكلمين في تعارض النص والعقل:

وهو إمكانية تعارض النص والعقل، وإذا حدث ذلك فينبغي أن يُقدم العقل، ونُسب ذلك إلى أبي المعالي الجويني رحمه الله في كتابه الإرشاد[17] وأبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابيه المستصفى وقانون التأويل[18] والفخر الرازي رحمه الله في عامة كتبه الكلامية[19].

وصورة المذهب تظهر في الآتي:

إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يُجمع بينهما وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعا وهو ـ أيضا ـ محال لأنه رفع للنقيضين، وإما أن يُقدم السمع وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه لكان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يُتأول وإما أن يُفوَّضِ.

مناقشة مذهب المتكلمين:

قد تصدى لهذا القانون أو المذهب الكلامي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من مؤلفاته،[20] وأفرد له كتابه: درء تعارض العقل والنقل؛ حيث ناقش هذا القانون في أربعة وأربعين وجها اشتمل عليها عامة الكتاب، وأنا أختار من هذه الوجوه ما يناسب هذا البحث الموجز:

أولا: قانون المتكلمين مبني على ثلاث مقدمات:

1ـ ثبوت تعارض الدليلين النقلي والعقلي.

2ـ انحصار التقسيم فيما ذكروه من الأقسام الأربعة.

3ـ بطلان الأقسام الثلاثة، وتعيُّن القسم الرابع وهو تقديم الدليل العقلي.

والمقدمات الثلاث باطلة، وبيان ذلك أن يقال: إذا تعارض دليلان سواء كانا نقليين أو عقليين، أحدهما نقليا والآخر عقليا، فالواجب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو ظنيين، أو أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا.

أما القطعيان فلا يجوز تعارضهما، سواء كانا نقليين أو عقليين، أو أحدهما عقليا والآخر نقليا، وهذا متفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله، فلا يمكن أن تكون دلالته باطلة.

وعليه، فلو تعارض دليلان قطعيان، وكان أحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين وهو محال، بل كل ما يُعتقد فيه التعارض من الدلائل التي يُعتقد فيها القطع فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي، أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين، فأما مع عدم تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين.

أما إن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيا، والآخر ظنيا، فإنه يجب تقديم القطعي باتفاق العقلاء سواء كان هو السمعي أو العقلي.

وأما إن كانا جميعا ظنيين؛ فإنه يُصار إلى طلب الترجيح، فأيهما ترجح كان هو المقدم، سواء كان عقليا أو سمعيا.

و بعد ذلك لا جواب لهم إلا أن يقولوا: الدليل السمعي لا يكون قطعيا، وحينئذ يقال لهم: هذا ـ مع كونه باطلا ـ إلا أنه لا يفيد؛ لأنه على هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعيا، لا لكونه عقليا، ولا لكونه أصلا للسمع.
ثانيا: أما زعمهم أن تقديم النقلي على العقلي يستلزم القدح في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه..
 

الجواب في التعليق
بواسطة (627ألف نقاط)
فجوابه كما يلي: قولهم العقل أصل النقل؛ إما أن يراد به: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، بمعنى أنه لولا العقل لما ثبت النقل، أو أنه أصل في العلم بصحته، بمعنى أنه لولا العقل لما عرفنا صحة النقل.

والأول: لا يقوله عاقل؛ لأن ما هو ثابت في نفس الأمر، بالنقل أو بغيره، فهو ثابت، سواء علمنا بالعقل أو بغيره ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علما بالعدم، وعليه، فالعقل ليس أصلا في ثبوت النقل في نفسه.

أما كون العقل أصلا في معرفتنا بالنقل، ودليلا لنا على صحته، فالعقل هنا إما أن يراد به: الغريزة التي فينا، أو العلوم المستفادة من تلك الغريزة؛ أما كون العقل هو تلك الغريزة، فالغريزة ليست علما يتصور أن يعارض النقل، إنما هي شرط في كل علم عقلي أو نقلي كالحياة، وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له؛ فالحياة ـ مثلا ـ شرط في قدرة الإنسان على الحركة، فيمتنع أن تكون الحياة منافية لهذه الحركة، ومانعة لها.

أما كون العقل هو تلك العلوم المستفادة، وأنها هي أصل النقل، فيقال: العلم بصحة النقل غايته أن يتوقف على ما به عُلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست كل العلوم العقلية يُعلم بها صدقه، بل يُعلم ذلك بطرق كثيرة ومتنوعة، منها بعض الأدلة العقلية.

وعليه، فليس كل المعقولات أصلا للنقل، لا بمعنى توقف العلم بالنقل عليها، ولا بمعنى الدلالة على صحته، ولا بغير ذلك، وحينئذ فإذا كان المعارض للنقل من العقليات ما لا يُتوقف العلم بصحة النقل عليه، لم يكن القدح فيه قدحا في أصل النقل، فالقدح في بعض العقليات ليس قدحا في جميعها، كما أنه: ليس القدح في بعض النقليات قدحا في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها.

وعليه، فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبنى عليها معرفتنا بالنقل ـ وهي جزء من دلائل معرفة صحة النقل ـ صحة غيرها من المعقولات، فضلا عن صحة العقليات المناقضة للنقل.[22]

ثالثا: أن يقال: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ـ ونعني بالعقل هنا العلوم النظرية الاستدلالية، لا الضرورية الفطرية فهذه لا يُتصور معارضتها للشرع ـ ولهذا قيل: العقل متول؛ ولَّى الرسول ثم عزل نفسه، فالعقل يدل على صدق الرسول دلالة مطلقة عامة. ومثال ذلك:

المستفتي يسأل عاميا عن مسألة فيدله على مفت، فيسأل المفتي، فيجيبه بجواب يخالف ما عند العامي الدال، فهنا يجب على المستفتي أن يقدم كلام المفتي على كلام الدال. ولو قال الدال: أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفت. قال له المستفتي: تقليدك وموافقتي لك في هذا العلم المعين، لا يستلزم أني أوافقك في كل علم تذهب إليه، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي ـ الذي هو أعلم منك، وذلك بشهادتك ـ لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت وشهادتك بذلك.

هذا مع علم المستفتي بجواز الخطأ على المفتي، فتقديم خبر المعصوم صلى الله عليه وسلم على العقليات المعارضة له، أولى من تقديم المستفتي قول المفتي على قول الدال المخالف له.[23]

رابعا: أن يُعارض دليلهم بنظير ما قالوه؛ فيقال : إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين الدليلين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لم يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، فكيف يعارض العقل شيئا دلَّ على صحته وصدقه؟ هذا تناقض يبطل أن يكون العقل دليلا فضلا عن تقديمه على النقل، هذا على سبيل المعارضة وإلا فالعقل الذي دل على صحة السمع عقل صحيح، ولا يُتصور معارضته للنقل، وما عارض النقل من العقليات، فالعقل ـ الذي هو أصل السمع ـ يوجب تقديم النقل عليه، فمن قدم العقل على النقل يلزمه التناقض والتحير.

وعليه، فلا يُتصور وجود عقل صحيح صريح يعارض نصا صحيحا صريحا، أو بمعنى آخر يمتنع أن يكون هناك عقل قطعي يعارض نصا قطعيا، هذا لا يكون إلا على سبيل التوهُّم، سواء في جانب العقل، أو في جانب النص، كما مرَّ بيانه، وهذا التوهم لا يستمر مع إمعان النظر، وسعة التأمل، فلا بد أن يستبين؛ إما صحة العقل وصراحته، أو صحة النص وصراحته، وحينئذ فالتقديم هو حق الصحة والصراحة سواء للعقل أو للنقل، فلا العقل يُقدم مطلقا، ولا النص يقدم مطلقا، وإنما يقدم الصحيح منهما.

والإسلام قد تميز عن سائر المذاهب والديانات المحرفة بموافقته للعقول الصحيحة والفطر المستقيمة، مما كان سببا في انتشاره، خاصة بين العقلاء والعلماء وأصحاب الفكر والرأي، إذا تجردوا عن الهوى، وتخلصوا من ضغط الشهوة.

الخاتمــــة:

وفي خاتمة هذا البحث أسجل النتائج التالية:

1ـ إثبات عصمة الشارع الحكيم، وذلك بعد أن تقرر بالأدلة والبراهين اليقينية أن ليس في الشرع ما يخالف مقتضيات العقول الصحيحة، كما أنه ليس في العقل الصحيح ما يخالف نصا صحيحا صريحا من نصوص الكتاب والسنة.

2ـ من قدم الشرع الصحيح على العقل عند ظهور التعارض كان قد ظفر بالشرع ـ ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي ـ لكن غايته أن يكون قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي، وهذا مما ينتفع به الإنسان، بخلاف من قدم الدليل العقلي ـ زعما منه أن هو الصحيح مطلقا ـ فهذا لا عقل معه ولا شرع، وذلك هو الخسران المبين.

3ـ من علم بعقله أن هذا هو رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء ثم وجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلِّم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه بين يديه، وأن يعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب ونحوه من العلوم، مع تسليم العامة لهؤلاء فيما يقولونه ويخبرون به ويأمرون به، فقبول خبر الرسول وأمره ونهيه آكد، لجواز الخطأ على أولئك دون الرسول صلى الله عليه وسلم.

4ـ عدم صحة الإيمان المشروط كمن يقول: أنا لا أومن بخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعلم انتفاء المعارض العقلي، أو أنا لا أومن حتى تصدقه رؤيا النوم، أو الكشف أو الذوق، أو التجربة المعملية (المخبرية) أو نحو ذلك من الشرائط، فهذا إيمان لا يصح وصاحبه فيه شبه من الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ}[الأنعام:124].

5ـ من شهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق في الجملة ولم يتابعه في مفردات كلامه وأخباره، بل قابلها بما يسميه عقلا أو كشفا لم يكن مؤمنا بالرسول؛ مثله مثل الحاكم الذي يقول: هؤلاء الشهود صادقون في ما كل ما يشهدون به، وهو لا يثبت بشهادة أحد منهم حقا، لم يكن في تعديله إياهم فائدة، وهذه أزمة أمتنا الحضارية.

6ـ اعتقاد نفي التعارض بين النقل والعقل هو مما تعمر به الحياة، وتزدهر به الحضارات، فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه، الأمر الذي يجعل المسلمين أصحاب السبق، واليد الطولى في تقدم المعارف العقلية والعلوم التطبيقية، إذ ليس لديهم ما يحجزهم عنها، ولا ما يخيفهم منها؛ كما حدث في الدولة النصرانية في عصور الظلام في أوربا، حين اعتقدوا التعارض بين نصوص الكتاب المقدس ومعطيات العقل، حتى تعرض المشتغلون بالعلوم العقلية والتطبيقية إلى أشد أنواع التنكيل من قِبل الكنيسة، فكان الانعتاق من سلطانها بداية النهضة الحديثة، وللأسف كان ـ أيضا ـ بداية ظهور الاتجاه العلماني!!

هذا، وصلى الله على سيدنا محمد وآل وسلم تسليما كثيرا..

اسئلة متعلقة

مرحبًا بك إلى موقع باك نت، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...