0 تصويتات
في تصنيف مقالات ونصوص فلسفية باك 2024 بواسطة

مقالة حول نتائج المنهج التجريبي 

الإجابة هي كالتالي 

ـــ هل نتائج المنهج التجريبي دقيقة دقة تامة ، بمعنى آخر هل يمكن الوصول إلى اليقين المطلق في نتائج العلوم التجريبية؟

         يشير الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل إلى أن العلم كان مرتبطا في بداياته ( الحضارات القديمة) باللاهوت ، و كان التعليم عبارة عن منظومة بسيطة تتم بين جدران الأديرة و المعابد و لهذا ارتبط العلم في هذه المرحلة بالشعوذة و السحر أما لدى اليونان فقد ارتبط العلم بالفلسفة و هذا ما جعله يعتمد على المنهج التأملي الذي هو عبارة عن منهج عقلي و في هذه المرحلة وقع العلم في قبضة الميتافيزيقا حيث أن كل التفسيرات التي تقدم للظواهر الإنسانية و الطبيعية قد كانت خارجة عن نطاق الواقع العلمي العملي حيث كانت مبنية على أساس ربط هذه الظواهر بقوة غيبية. 

       و كانت العلوم لدى اليونان مرتبطة بشكل كبير بكتلة واحدة هي الفلسفة ، و أول انفصال للعلوم و محاولة للخروج عن نطاق الميتافيزيقا كانت مع إقليدس ، فانفصلت الرياضيات ثم الفيزياء ثم الكيمياء ، و كانت آخر العلوم انفصالا عن الفلسفة علم الاجتماع و علم النفس في القرن 18م . أما ظهور المنهج العلمي الذي سعى إلى الوصول بالعلم إلى مرتبة الدقة و اليقين المطلق قد كان في بداية العصر الحديث ، أي منذ عصر النهضة الصناعية و الفكرية في أوروبا نهاية القرن 15 م و بداية القرن 16م حيث رأى الكثير من العلماء وجود دراسة الظواهر الطبيعية دراسة علمية موضوعية بعيدة عن التفسيرات الأسطورية عن طريق التجربة لا التأمل أي بالبحث المباشر في حقيقة الظواهر و قد كان تطبيق هذا المنهج بداية مع علماء الفيزياء حيث توصلوا إلى نتائج باهرة في فهم الكون و الطبيعة و قوانينها . و هذا ما جعل الكثير من العلوم الأخرى تحاول الاقتداء بالمنهج التجريبي كعلوم المادة الحية ، البيولوجيا ؛ و عليه نطرح التساؤلات الآتية :هل نتائج المنهج التجريبي دقيقة دقة تامة ؟و هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على علوم المادة الحية بطريقة صارمة كما هو الحال في علوم المادة الجامدة – الفيزياء-؟.

     يرى عدد من الفلاسفة والعلماء أمثال: "جون ستيوارت مل" و"كلود برنار" فرانسيس بيكون " و إسحاق نيوتن أن النتائج التجريبية تعبر عن الحقائق العلمية الأكثر دقة وموضوعية ، فتطبيق المنهج التجريبي عن طريق احترام خطواته يؤدي بالضرورة إلى حقائق علمية ثابتة لا تتغير و ذلك بالارتكاز خصوصا على احترام مبدأ التجريب أو اختبار الفكرة عمليا و واقعيا ، ، أي أن النتائج المتوصل إليها عن طريق المنهج التجريبي قوانين دقيقة ويقينية، وهذا نتيجة اعتمادها المقياس الصارم، الذي لا يقرر حقيقة إلا إذا أكدتها وبرهنت عليها التجربة ، كما أن النتائج التجريبية تصاغ في أحكام كمية رياضية حتى تبتعد عن الوصف والكيفيات التي تثير الالتباس والغموض، ومن ثمة تضمن الدقة والاختصار واليقين ، يرى بيكون مثلا ، أن العلوم التجريبية لا تصل إلى معرفة يقينية مطلقة إلا من خلال أمرين، الأول تخليص العقل من الأوهام و الميتافيزيقا ( التخلص من المنهج التأملي ) ليكون قادرا على التفكير العلمي أما الثاني فهو إخضاع كل أبحاث و مواضيع العقل إلى الدراسة التجريبية .

  يرى فرانسيس بيكون أن العقل البشري أشبه بالمرآة التي لا تقوم بوظيفتها كاملة إلا إذا تم صقلها صقلا تاما حتى تزول عنها الأوساخ كذلك يجب توجيهها التوجيه المناسب نحو النور ، ثم بعد ذلك يوضع الشيء المراد رؤيته أمامها في المكان المناسب والملائم الذي يسمح بظهوره كاملا فيها وهذا ماينطبق على العقل ، إذ يجب أولا أن يبدأ الإنسان بتطهير عقله مما علق به من أوهام تعوق تفكيره السليم حتى يمكنه التوجه نحو المعرفة الصحيحة ثم يمكن العقل صاحبه من المعرفة الصحيحة بالفعل . فليس العقل إلّا كالمرآة التي تعكس صورة الاشياء كما هي تماماً ،لكنها كالمرآة الملتوية التي تمزج الصورة نفسها بصورة الأشياء التي تصدرها فتصيبها بالفساد والتشويه .

    كما يرى بيكون أنه على العلماء والباحثين قبل الإقدام على البحث العلمي أن يطهروا عقولهم من التصورات السابقة ، حيث تواجه الباحث مجموعة من الأوهام تنال من قدرته على التفسير وتحد من حريته في الفهم والتأويل أثناء تفسير ودراسة الظواهر ، فيحذرنا بيكون من الوقوع في أسر هذه الأوهام أكثر من تحذيره لنا من التخلص منها لأنها جزء من طبيعة البشر.و يرصد لنا بيكون أربعة أنواع من الأوهام متمثلة في : 

 " أوهام القبلية أو الجنس "وهي تعود إلى النقص الطبيعي في العقل الإنساني من حيث هو كذلك ، أنه عقل إنسان أورثته الخطيئة والكبرياء والغرور ، والعقل هنا أشبه بالمرآة الكاذبة التي تشوه طبيعة الأشياء وألوانها وهي مشتركة بين أفراد الإنسان فيفرض على الطبيعة مايمليه عليه عقله لا ماتمليه عليه التجربة والمشاهدة فتجعله يميل إلى التعميم والتسرع في إصدار الأحكام ، لذلك على الإنسان متى عرفها برأ الذهن منها ومن عوائقها ، ونجد لتحذير بيكون من هذه الأوهام نتيجتين خطيرتين : أولاهما أحبطت محاولات الرياضيين والفلاسفة في جعل الفيزياء علم رياضي عام ، وثانيهما أن عمل بيكون على إعداد المدرسة العملية الإنجليزية التي اتخذت من التجربة المعلم الأول في مجال الطبيعة . 

  إضافة إلى أوهام الكهف : ( المقصود من الكهف البيئة التي نشأ فيها الفرد ) هذه البيئة هي التي تجعل الأفراد يتوهمون نوعا من الأشياء و يقرون بوجودها ، و التخلص من هذا النوع من الأوهام لا يكون إلا بالتحرر من هذه البيئة المحرضة على الجهل ( نقد الدين و المجتمع ).، فأوهام الكهف تعود إلى طبيعة الفرد من مزاج ومكونات فطرية أو عادات مكتسبة بالتربية والعلاقات، وهي بمثابة الكهف الأفلاطوني حيث يكون العقل البشري سجيناً في كهفه الأفلاطوني وتعوقه أوهامه عن الرؤية الصادقة للطبيعة، وما من إنسان إلاّ ويعلم ويعرف بأنه سجين كهفه مما يؤدي إلى اختلاف الآراء والأحكام حول القضايا المهمة والعلوم المتعلقة بحياة الفرد .

 أما أوهام المسرح : أوهام ناتجة عن نظريات سابقة لمفكرين قدماء، فمصدرها النظريات الفلسفية السابقة كنظريات أرسطو(شرالسفسطائيين ) ونظريات أفلاطون وهذه الأوهام أو الأصنام كما يسميها بيكون ليست أغاليط وسفسطات وأضاليل استدلالية ، وإنما هي ميول فاسدة في تركيب عقلنا وضرب من خطيئة أصلية تُضللنا عن فهم الطبيعة. فأسلوب أرسطو مثلا يصوغ القواعد حسب الأقيسة ثم يبحث عن مصداقيتها في ظواهر الطبيعة ،أما أسلوب أفلاطون فيجعل من العالم المحسوس تابعا للعالم المتخيل قبل وجوده، وكذلك أسلوب التجريبيين الذين سبقوا بيكون إلى مذهب التجربة ولم يقيموه على أساس ولم يتخذوا له الحيطة من الخطأ والالتباس. وبذلك نرى بيكون يقصد بأوهام المسرح تللك النظريات الفاسدة التي طالما سيطرت وتسيطر على العقول فتنجرف على الحقائق وهو يشير هنا إلى النظريات الطبيعية والميتافيزيقية الإغريقية.

وبالنسبة لأوهام السوق : فهي أوهام ناتجة عن الخلط اللغوي أو سوء استخدام اللغة و هي أهم ما يجب تجنبه فالضجيج يرتفع في السوق فيحجب الإنسان عن الإدراك الواضع للغة ، ويرى بيكون بأنها الأوهام الأكثر مثاراً للاضطراب وسميت بذلك لأن الناس متى تجتمع في الأسواق لا تملك أداة للمناقشة وتبادل الأفكار سوى الألفاظ التي تسيطر على تصورنا للأشياء ، فكثير من هذه الألفاظ يعتريه الغموض ومنها ما يطلقه الإنسان على خصائص أوصفات يدركها حين يلتفت إلى بعض وجوه الشبه العابرة بينما يغفل الفوارق الأساسية – كلفظ المحرك الأول أو المحركات الأولى- مثلاً التي قال بها أرسطو وغيره من الفلاسفة وتصوروها في عالم الأفلاك السماوية كلُ منها يحرك فلكاً معيناً ، إذن المقصود هنا هو اللغة والتي يتم بها تبادل السلع في البيع والشراء كما يتبادل بها الناس أفكارهم وآراءهم، فإذا كانت ألفاظ اللغة المستعملة مبهمة وغير دقيقة فستكون مصدر خطأ عند الكثيرين وستكون النتيجة أن يمعن الناس في الجدل وتزداد حدة الاختلافات 

والنزاع بسبب غموض المصطلحات والألفاظ المستخدمة في النقاش والحوار.

هذه هي الأوهام التي تؤدي بالفرد في حياته اليومية أو الباحث في دراسته العلمية إلى الخطأ والزلل، وإذا تخلص منها ونجح في التخلص من الأوهام الأربعة بقوة وإرادة وعزيمة عقلية واعية تمكن من أن يدخل إلى ممكلة العلوم من أوسع أبوابها ألا وهو المنهج الأستقرائي الذي يبدأ بالملاحظات الحسية ، حيث يتم تطهير العقل و جعله أكثر استعدادا و قابلية للتفكير العلمي الدقيق و لكن لا يتم له ذلك كلية إلا من خلال التجريب أو التفكير وفقا لمنهج علمي مطلق الضبط بخطواته الثلاث ( الملاحظة ، الفرضية ، التجريب ). إن نتائج المنهج التجريبي حسب فرنسيس بيكون عبارة عن حقائق مطلقة لا احتمال فيها ، و هي مبادئ ثابتة يصل إليها العقل عن طريق التطبيق الصارم للتجربة وفق عدة قواعد حصرها بيكون في تسع (9) و هي : "تكرار التجربة " أي عدم الاكتفاء بإجراء التجربة مرة واحدة ، بل يجب تكرارها عن طريق تغيير الشروط و الظروف في كل مرة . كذلك " تنويع التجربة" وهذا يكون بتغيير كميات و خصائص المادة الخاضعة لها 3_ مد التجربة : في حال نجاح التجربة تعمم لتشمل مجالات أخرى داخل نفس العلم ، زد على ذلك "نقل التجربة " أي الاستفادة من التجارب الناجحة في علم من العلوم في علوم أخرى ، ضف إلى ذلك قاعدة " قلب التجربة " وهذا يعني البحث في السؤال العكسي لها مثال ذلك : هل البرودة تنتشر من الأسفل إلى الأعلى ؟ / قلبها : هل الحرارة تنتشر من الأعلى إلى الأسفل ؟ ، ثم القيام "بجمع التجارب " أي محاولة استخلاص القوانين المتحصل عليها من عدد من التجارب في إطار قانون واحد. " صدف التجارب " ومعناه اجراء التجارب بشكل عشوائي و ملاحظتها ، بعدها " استخلاص التجربة " في شكل قانون قابل للتعميم في حال نجاحها، وأخيرا القيام "بإلغاء التجربة " في حال فشلها مع كل هذه القواعد .

   هذا و يقسم بيكون العمل التجريبي إلى مرحلتين هما : مرحلة إجراء التجريب ، ومرحلة تسجيل نتائج التجريب في قوائم تصنيفية أي على شكل قوانين وفي هذا الصدد يقول بيكون : '' إن الوقائع التجريبية أشبه بجيش ضخم من أشبه بجيش ضخم العدد مبعثر و متفرق و تنظيمه في قوائم يقدم لنا القوانين '' ، و هذه القوانين عبارة عن ثوابت – مبادئ- تتحكم في حركة الكون و الطبيعة و بالكشف عنها يكون المنهج التجريبي قد توصل إلى نتائج دقيقة و مطلقة لا تتغير بتغير الزمان و المكان .

   إن النتائج التجريبية تصاغ في أحكام كمية رياضية حتى تبتعد عن الوصف والكيفيات التي تثير الإلتباس والغموض، ومن ثمة تضمن الدقة والاختصار واليقين، وأحسن تعبير عن ذلك ما نجده في النموذج الفيزيائي وما حققه من يقين في منهجه ولغته ونتائجه فصار من أرقى العلوم دقة، وكل هذه الخصوصية في النتائج التجريبية هي التي فتحت للإنسان آفاق المستقبل، وإمكانية التنبؤ بالظواهر قبل حدوثها، واستثمار تلك النتائج في واقعه وما ترتب عن كل ذلك من أبعاد حضارية وتقنية ومعرفية لم تخطر أبدا على عقل الإنسان ، ومن بين الأدلة التي اعتمد عليها أنصار هذا الاتجاه لتبرير موقفهم أيضا، أن الأساس الذي تستند وتقوم عيه النتائج والقوانين العلمية هو مبدأ الحتمية المطلق الذي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب وشروط متى توفرت تحققت نفس النتائج، ذلك لان العلم كما يؤكد كلود برنار قائلا: "إن العلم حتمي بالبداهة، وهو يضع الحتمية موضع البديهيات، فلولاها لما أمكن أن يكون" ، ومن ثمة فهو يرفض أن تكون هناك ظاهرة علمية لا ترتبط دائما بنفس الشروط، وهذا ما يتضح من خلال قوله: "إن ظاهرة لا يمكن تحديد شروط وجودها لا تعدو أن تكون إنكارا للعلم" ، لذلك فهو يجعل الحتمية أساس كل العلوم التجريبية وتخضع لها جميع الظواهر جامدة كانت أم حية ، يقول كلود برنار: "تتحدد شروط وجود كل ظاهرة تحديدا مطلقا في جميع الكائنات سواء أكانت أجساما حية أو جامدة". ووفقا لمبدأ الحتمية المطلق يمكننا التنبؤ حينها بحدوث الظواهر وقوانينها وهي الغاية التي يسعى إليها العلم. نفس الرأي ذهب إليه بوانكاريه الذي يؤكد على أن العلم يخضع لمبدأ الحتمية المطلق وهو ما يجعل الحقائق المتوصل إليها تتصف بالدقة واليقين، لأن العالم الذي لا تسوده الحتمية حسب بوانكاريه هو عالم موصد في وجه العلماء، لأن العلم حتمي بالبداهة. وهو ما جعله يضع هو الآخر كامل ثقته في مبدأ الحتمية ويؤكد بثبات الشروط والأسباب وبالتالي الثقة التامة في المنهج التجريبي وما ينجم عنه من نتائج وقوانين إذ يقول: "يجب أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة وسببا لحالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة ".

     يتبع في الأسفل 

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (455ألف نقاط)
 
أفضل إجابة
ونجد أيضا إسحاق نيوتن فيؤكد على أن العالَم الفيزيائي ( موضوع المنهج التجريبي ) محكوم بمبادئ ، قوانين ، علاقات ثابتة ، و على أساس هذه المبادئ تتحدد حركة الكون و على أساسها يتم تفسيرنا و تنبؤنا لما يحدث داخل منظومة الكون ، و من هنا تعد الحتمية – مقولة الديناميكية الشاملة – إحدى أهم المبادئ التي فرضها نيوتن على العلم الكلاسيكي ، و التي تعني : '' عمومية قوانين الطبيعة و ثباتها و اطرادها فلا تخلف و لا مصادفة و لا جواز و لا إمكانية ، لأن كل شيء في الكون ضروري ذا علاقات ثابتة ، فكل ظاهرة نتيجة لظاهرة أخرى ( تكون سببا لها ) و هذا ما يجعل نظام الكون ثابتا ، شاملا ، مطّردا " .

   إن كل ظواهر الكون حسب نيوتن تنحصر في قسمين : ظواهر ( أسباب ) و ظواهر ( نتائج ) و هي تتحرك متتابعة و متعاقبة ( مطردة ) ، حيث أن كل ظاهرة في ذاتها محكومة بقانون ثابت لا يتغير ، و الهدف بالتالي من العلم التجريبي هو ملاحظة هذه الظواهر و استخلاص قوانينها في شكل علاقات رياضية الغاية منها هي التنبؤ ، و السيطرة على الطبيعة ، و لما كانت القوانين ثابتة في الظواهر ، بالتالي فإن نتائج العلم التجريبي دقيقة دقة تامة حسب نيوتن ، بمجرد وصولنا لقانون الظاهرة نكون قد توصّلنا إلى نصر علمي بخصوصها .

    وبناء على القول بقانون الحتمية توصل نيوتن إلى العديد من القوانين منها : قانون الحركة ، قانون الجاذبية ، انتقال الطاقة ،..أخيرا ، يمكن القول أن نيوتن آمن بالمعادلة التالية : ملاحظة + تجربة = قانون ، و أن القوانين في النهاية ثابتة لا تتغير و أن التنبؤ بحركة الكون يأتي كنتيجة لهذه القوانين التي تمنحنا القدرة على التحكم في الظواهر الفيزيقية ( الطبيعية ) .

   و من أنصار هذا الطرح كذلك نجد جون استوارت مل الذي يؤكد على أن خضوع الظواهر لمبدأ الاطراد و التتابع يجعل من استخلاص القوانين أمرا دقيقا خصوصا مع احترام قواعد المنهج التجريبي ( _ التلازم في الحضور ، _ التلازم في الغياب ،_ التلازم في التغير ،_ قاعدة البواقي ) .

   لكن ورغم ما قدمه أنصار هذا الاتجاه من أدلة وحجج لتبرير موقفهم، إلا أن الملاحظ أن هذا الموقف المتعصب للنتائج التجريبية والناظر إليها على أنها حقائق دقيقة ونهائية، هو موقف لا يتناسب مع الروح العلمية المعاصرة التي تقوم على أساس الإيمان بمبدأ النسبية، لأن علمنا ليس كاملا ولا تاما، بل يمدنا فقط بحقائق تقريبية، من جهة أخرى نجد أن تاريخ العلم لا يعبر عن حقائق مطلقة وثابتة، بل يعبر عن أخطاء أولى وجب النظر إليها وإعادة تصحيحها حسب رأي "غاستون باشلار" وفق مقاربات جديدة وباستمرار، وكل هذا يثبت أن نتائج الدراسة التجريبية نسبية وتقريبية ، كما أن معطيات العلم في القرن العشرين وما أحدثته من ثورة على المفاهيم السابقة، ابتداء برفض مبدأ الحتمية المطلق والنتائج المطلقة واليقينية والثابتة، والأخذ بمبدأ الاحتمال والنسبية في الدراسة العلمية ونتائجها، والابتعاد عن هالة المطلق والنتائج اليقينية وبالتالي توجيه البحث العلمي إلى فهم نظام الأشياء واستخلاص النتائج بقدر الإمكان ، لأن العلم مجال مفتوح ولغز متجدد باستمرار .

     لهذا ظهر اتجاه آخر يرى أنصاره أنه لا يمكن الوصول دائما إلى نتائج دقيقة عن طريق التجريب ، و هذا لأن ظواهر الكون في الواقع ليست محكومة بقانون عام للحتمية . كما أن الباحث في العلوم التجريبية يبدأ دراسته من ملاحظة الظواهر، ثم يتجه إلى تحليل المركب منها، وما يواجهه من مشكلات، ثم يعمل على وضع تعليلات مؤقتة (افتراض) لها، ثم يسير إلى التجربة للتحقق من الحادثة المدروسة، والتأكد منها، قصد الوصول إلى تفسير لها، وصياغتها في شكل قانون عام يعبر عن الحادثة ويفسرها، فالقانون هو محصلة العلم ونتيجة دراسته، لكن هذه النتائج التجريبية وحقائقها ليست يقينية بل تبقى نسبية تقريبية فقط، فهي نتائج احتمالية وغير مضمونة الدقة، إن أصحاب هذا الموقف يؤكدون على أن التفسير العلّي ( السببي ) للظواهر ما هو إلا تفسير مؤقت ( القانون : تفسير مؤقت ، يمكن تكذيبه في مرحلة ما).

 وهو ما أكده أنصار الفيزياء المعاصرة الذين اعتمدوا بدورهم على أدلة وحجج لتبرير موقفهم أهمها : أن النتائج التجريبية تعبر عن علاقات متشعبة من المستحيل على الباحث التجريبي أن يحيط بها جميعا، أو يجعلها في شكل قانون عام، ومن ناحية أخرى نجد المعايير التي تقاس بها الظواهر الطبيعية ليست ثابتة ولا يقينية لأنها معرضة لعوامل وتغيرات تطرأ عليها، مما يفقدها دقة النتائج وتصير النتائج مجرد احتمالات ترجيحية. لهذا يؤكد أصحاب هذا الموقف أن منطلقات الدراسة الاستقرائية غير المؤكدة، وغير المعللة علميا، ولا سند تجريبي لها، هو الذي يبرر نسبية النتائج، والشك فيها أحيانا، لأن صدق الجزء لا يبرر بالضرورة صدق الحكم على الكل. يقول "كلود برنار": "يجب أن نكون حقيقة مقتنعين بأننا لا نمتلك العلاقات الضرورية الموجودة بين الأشياء إلا بوجه تقريبي كثيرا أو قليلا، وأن النظريات التي نمتلكها هي أبعد من أن تمثل حقائق ثابتة"، ثم إن نتائج العلم تتأسس في مجملها على مبدأ الحتمية واطراد الظواهر الذي يعني السير وفق قوانين عامة ثابتة، ملزمة لحدوث الظواهر، رغم أن كل الدلائل في الواقع تؤكد أن عالم الأشياء الحسية متغير باستمرار، ونسبي، ولا ثبات له، وهذا يعني أن ما نصل إليه من نتائج علمية تبقى نسبية لا يمكن تعميمها، ولا الجزم بأنها تبقى كذلك، لهذا يقول "غاستون باشلار": "إن العلم الحديث هو في حقيقته معرفة تقريبية". حيث يرى "غاستون باشلار" أيضا أن العقل العلمي يصير متطورا باستمرار، يمارس الهدم والنفي ليعود إلى البناء والتأسيس من جديد، وهذا ما رسخته بالفعل: ميكانيكا الكوانتوم، فيزياء المصفوفات، ميكانيك ديراك...وغيرها من الأبحاث العلمية الحديثة والمعاصرة التي تؤكد حقيقة أن النتائج التجريبية نسبية تقريبية فقط.

   لقد حاول ماكس بلانك(1850-1947) التأكيد على عدم دقة القوانين التي توصل إليها العلم التجريبي في الفيزياء الكلاسيكية ، و هذا من خلال تفنيد عدد من القوانين و العلاقات التي توصل إليها نيوتن ، أو الفيزياء القديمة ، و كان له ذلك من خلال نظريته في الكوانتا ، أو الكوانتوم ، التي عرضها في 17 ديسمبر 1900 في جلسة الجمعية العامة التابعة لأكاديمية العلوم – برلين - ، حيث برهن من خلالها أن الطاقة لا تنتقل في شكل مستمر بل في شكل متقطع ، فالذرة تصدر الطاقة في شكل صدمات غير منتظمة يصعب معها التنبؤ الدقيق وفق مبدأ الحتمية مما يجعل المعارف العلمية تقريبية نسبية وليست مطلقة ثابتة ، إذ يرى أن الأجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها لا باستمرار بل على تقطع في شكل كمات أو كوانتات ، و في الضوء مثلا ، تعد الكمة '' الكوانتا '' قطاعا ضئيلا من الطاقة لا يمكن إنكاره ، بالإضافة إلى قصور أدوات الباحث المستخدمة في المنهج التجريبي خاصة إذا كنا بصدد دراسة الظواهر المتناهية في الصغر أو ما يعرف بعالم "الميكروفيزياء" أو "الفيزياء المجهرية"، فحركة الجسيمات لا يمكن ضبطها بأدوات القياس نظرا لرهافتها، وهذا ما يؤدي إلى نتائج تقريبية غير دقيقة .

    وقد أشار العالم الفيزيائي هايزنبرغ (1901-1976) في كتابه '' طبيعة الفيزياء المعاصرة ''أن سبب القصور في الفيزياء الكلاسيكية و المنهج التجريبي هو القول بمبدأ الحتمية أو العلية ( السببية ) ، فهو مبدأ غير صالح في مجال الذرة أو الفلك ( الالكترون لا يخضع للحتمية ) حيث يقول "هايزنبرغ "مؤكدا فساد هذا المبدأ '' إن الضبط الحتمي الذي تؤكد عليه العلية و قوانينها لا يصح في الفيزياء الذرية أو الميكروفيزياء '' و نظيف أنه قاصر كذلك في مجال الماكروفيزياء ( الفضاء) ، إن" هايزنبرغ "يرى أن مبدأ العلم ليس القول بالحتمية بل القول بالشك أو اللاتعين ، لذلك نجد العالم الفيزيائي "هيزنبرغ" سلم بذلك عندما قال: "كلما تم التدقيق في موقع الجسم كلما غيرت هذه الدقة كمية حركته، وبالنتيجة سرعته، و كلما تم التدقيق في قياس حركته كلما التبس موقعه، لذلك تصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق"، وربما هذا الذي جعله يؤكد أيضا على أن: "الخلاف بين الفيزياء المعاصرة أي التي تعتمد على مبدأ اللاحتمية والفيزياء الكلاسيكية التي تعتمد على الحتمية يمكن معرفته من خلال ما يطلق عليه علاقة الارتياب".

     قد يمكن القول كذلك أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج في فيزياء العين المجردة لكن هذا لا يستقيم في مجال الذرة ، و هذا ليس قصورا في العلم بل في الإنسان عموما ، فلو تحكم الإنسان في كل ظواهر الكون لأصبح الحاضر و المستقبل بلا معنى بالنسبة له و لانتهى عالم البحث و في هذا يقول العالم الفرنسي المختص في علم الفلك وحساب الإحتمالات " لابلاس " (1749-1827) : '' لو أن عقلا تطلع في كل لحظة ما على سائر القوى التي تحرك الطبيعة و على الحالة الخاصة بالكائنات التي تؤلفها ، لا بل لو كان له من السعة ما يستطيع به أن يخضع هذه المعطيات للتحليل لاستطاع أن يلم بقاعدة واحدة بحركات أكبر الأجسام في الكون و بحركات أخف الذرات ، و بعدها لا شيء يكون محلا للارتياب بالنسبة له و يكون الحاضر و المستقبل ماثلين أمامه '' . وبهذا يشير لابلاس إلى أننا لا يمكن أن نصل إلى نتائج دقيقة من خلال التجريب ، لأن عقل الإنسان ليس كاملا و لا قادرا على بلوغ الدقة و اليقين بشكل مطلق ، و هذا لسببين : إذ لا يمكن اختزال قوانين الكون كلها في قانون واحد فلو فعل ذلك لتوقف البحث العلمي والتجريبي و الدراسة و بالتالي تصبح الحياة بلا معنى ،فلا وجود للثبات بل إن الكون محكوم بالتغير المستمر .

    و يؤكد العالم الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين على أنه لا يمكن الوصول إلى نتائج ثابتة من خلال التجريب لأن المجرب الذي يعمل أساسا على استخلاص قانون الظاهرة المتحكم بها ، و الذي هو قانون متغير ، '' فالكون يغير من قوانينه باستمرار '' ، و عليه فالنتائج تكون متغيرة هي الأخرى ، و يبين أينشتاين من خلال النظرية النسبية الخاصة '' 1905 '' أن الكون خاضع للنسبية ، فالمكان و الزمان الفيزيائيان مفهومان نسبيان ، حيث يتعلق الزمن بالحركة ، و هذا ما يجعله متغيرا بين المجرات ، و الأماكن المجردة و الفضائية ، و خطأ نيوتن هو أن قوانينه كانت تنظر إلى الزمان و المكان على أنهما مفهومان مطلقان .

     كذلك ،إن الاعتقاد بأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج اعتقاد باطل لأنه لا وجود للتكرار في ظواهر الطبيعة ، فالعلة نفسها لا تتكرر أبدا ، و النتيجة نفسها لا تتكرر أبدا ، فالظاهرة أ (تساقط المطر اليوم) ليس هو نفس الظاهرة – أ ( تساقط المطر البارحة ) ،حيث يذهب الفيلسوف اليوناني هرقليطس (535-475ق.م) إلى أن الكون في صيرورة فلا شيء يدوم على حال معينة مرتين متتابعتين ، فالموجة في البحر يخيل لنا أنها نفسها تظل تطفو على سطح البحر حتى ترتطم بالشاطئ ، مع أن الحقيقة هي أن الموجة و إن احتفظت بصورتها الخارجية فإن ماءها مستمر في التغير ، و الحياة كلها تشبه النهر ، فهو يغير من مائه و من حركته دوما .

   ومن بين أسباب عدم الدقة في نتائج العلوم التجريبية هو عدم مراعاة خصوصية العلم التجريبي ويظهر ذلك من خلال عدم القدرة على تطبيق كامل خطوات المنهج التجريبي في كل الحالات و خصوصا مرحلة التجريب ، و هذا لعدم صلاحيتها لطبيعة الموضوع المدروس و هذا راجع أساسا للمفهوم الضيق للتجربة، و لهذا نرى أن طبيعة الموضوع هي التي تحدد المنهج ، " فالفلك مثلا يحدد منهجه التجريبي من خلال : الملاحظة ــــ الفرضية ــــ العمل الرياضي –بدلا من التجريب لاستحالته "، وبالنسبة " للجيولوجيا : المنهج التجريبي فيها يقوم على الملاحظة و الافتراض" ، إضافة إلى قصور أدوات الباحث المستخدمة في التجريب ، فالمجرب يحتاج دوما إلى جملة من الوسائل و التجهيزات سواء أثناء الملاحظة أو التجريب و التي تدخل ضمن الشروط اللازمة لإعادة اصطناع الظاهرة و محاولة تفسيرها سببيا ، و عدم توفر هذه الوسائل ، أو خطورتها ، أو قدمها ، أو عدم صلاحيتها ، يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة ، أو نتائج نسبية غير مؤكدة .

    لكن ورغم ما قدمه أنصار النزعة المعاصرة من حجج لتبرير موقفهم القائل بالنسبية، إلا أنه لا يمكن التسليم بصحة رأيهم مطلقا ، فالواقع وتاريخ العلم يثبتان ذلك، ثم ألا يكون إنكار مبدأ الحتمية المطلق إنكارا للعلم ودقة نتائجه ؟ ألا يعود هذا عائقا أمام تحقيق غاية العلم وهي التنبؤ؟ .

     إن العلوم المعاصرة اليوم لجأت إلى الاعتماد على مبدأ الاحتمالات، خاصة بعد التطور الذي خضعت له الفيزياء المعاصرة، لذلك اعتمد على هذا المبدأ في عالم الميكروفيزياء، أو عالم الظواهر المتناهية في الصغر، لأنها لا تقبل مبدأ الحتمية المطلقة، لكن هذا لا يمنع من تطبيق هذا المبدأ في عالم الماكروفيزياء أو عالم الظواهر المتناهية في الكبر ، والواقع العلمي يثبث ذلك ، إن أي بحث علمي لا يخرج عن نطاق التسليم بخضوع الظواهر لمبدأ الحتمية والتطور الحاصل في الفيزياء المعاصرة لا يرفض فكرة الحتمية ويهدمها، لأنها مبدأ علمي تقوم عليه الدراسات التجريبية يمكننا من الوصول إلى نتائج علمية، بل وتؤدي إلى نتائج مطلقة لا تتغير، وهذا ما أكده "لانجفان" عندما قال: "إن نظريات الذرة في الفيزياء الحديثة لا تهدم مبدأ الحتمية، وإنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي".

     ومما سبق نستنتج أن البحث العلمي القائم على المنهج التجريبي أكد قدرته على تقديم العديد من الإجابات التي شغلت الإنسان ، ولكن رغم ذلك تبقى نتائجه تتميز بالنسبية نظرا لعدة اعتبارات ابستيمولوجية وعملية ، وبهذا فالحديث عن الدقة المطلقة في تطبيق المنهج التجريبي على العلوم التجريبية أمر غير ممكن مادامت النتائج نسبية ، لكن يمكن الحديث عن التطور المستمر الذي تلحقه العلوم ، فكلما تطورت وسائل الملاحظة والتجربة كانت النتائج أكثر دقة ويقينا .

اسئلة متعلقة

مرحبًا بك إلى موقع باك نت، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...