مقالة حول نتائج المنهج التجريبي
الإجابة هي كالتالي
ـــ هل نتائج المنهج التجريبي دقيقة دقة تامة ، بمعنى آخر هل يمكن الوصول إلى اليقين المطلق في نتائج العلوم التجريبية؟
يشير الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل إلى أن العلم كان مرتبطا في بداياته ( الحضارات القديمة) باللاهوت ، و كان التعليم عبارة عن منظومة بسيطة تتم بين جدران الأديرة و المعابد و لهذا ارتبط العلم في هذه المرحلة بالشعوذة و السحر أما لدى اليونان فقد ارتبط العلم بالفلسفة و هذا ما جعله يعتمد على المنهج التأملي الذي هو عبارة عن منهج عقلي و في هذه المرحلة وقع العلم في قبضة الميتافيزيقا حيث أن كل التفسيرات التي تقدم للظواهر الإنسانية و الطبيعية قد كانت خارجة عن نطاق الواقع العلمي العملي حيث كانت مبنية على أساس ربط هذه الظواهر بقوة غيبية.
و كانت العلوم لدى اليونان مرتبطة بشكل كبير بكتلة واحدة هي الفلسفة ، و أول انفصال للعلوم و محاولة للخروج عن نطاق الميتافيزيقا كانت مع إقليدس ، فانفصلت الرياضيات ثم الفيزياء ثم الكيمياء ، و كانت آخر العلوم انفصالا عن الفلسفة علم الاجتماع و علم النفس في القرن 18م . أما ظهور المنهج العلمي الذي سعى إلى الوصول بالعلم إلى مرتبة الدقة و اليقين المطلق قد كان في بداية العصر الحديث ، أي منذ عصر النهضة الصناعية و الفكرية في أوروبا نهاية القرن 15 م و بداية القرن 16م حيث رأى الكثير من العلماء وجود دراسة الظواهر الطبيعية دراسة علمية موضوعية بعيدة عن التفسيرات الأسطورية عن طريق التجربة لا التأمل أي بالبحث المباشر في حقيقة الظواهر و قد كان تطبيق هذا المنهج بداية مع علماء الفيزياء حيث توصلوا إلى نتائج باهرة في فهم الكون و الطبيعة و قوانينها . و هذا ما جعل الكثير من العلوم الأخرى تحاول الاقتداء بالمنهج التجريبي كعلوم المادة الحية ، البيولوجيا ؛ و عليه نطرح التساؤلات الآتية :هل نتائج المنهج التجريبي دقيقة دقة تامة ؟و هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على علوم المادة الحية بطريقة صارمة كما هو الحال في علوم المادة الجامدة – الفيزياء-؟.
يرى عدد من الفلاسفة والعلماء أمثال: "جون ستيوارت مل" و"كلود برنار" فرانسيس بيكون " و إسحاق نيوتن أن النتائج التجريبية تعبر عن الحقائق العلمية الأكثر دقة وموضوعية ، فتطبيق المنهج التجريبي عن طريق احترام خطواته يؤدي بالضرورة إلى حقائق علمية ثابتة لا تتغير و ذلك بالارتكاز خصوصا على احترام مبدأ التجريب أو اختبار الفكرة عمليا و واقعيا ، ، أي أن النتائج المتوصل إليها عن طريق المنهج التجريبي قوانين دقيقة ويقينية، وهذا نتيجة اعتمادها المقياس الصارم، الذي لا يقرر حقيقة إلا إذا أكدتها وبرهنت عليها التجربة ، كما أن النتائج التجريبية تصاغ في أحكام كمية رياضية حتى تبتعد عن الوصف والكيفيات التي تثير الالتباس والغموض، ومن ثمة تضمن الدقة والاختصار واليقين ، يرى بيكون مثلا ، أن العلوم التجريبية لا تصل إلى معرفة يقينية مطلقة إلا من خلال أمرين، الأول تخليص العقل من الأوهام و الميتافيزيقا ( التخلص من المنهج التأملي ) ليكون قادرا على التفكير العلمي أما الثاني فهو إخضاع كل أبحاث و مواضيع العقل إلى الدراسة التجريبية .
يرى فرانسيس بيكون أن العقل البشري أشبه بالمرآة التي لا تقوم بوظيفتها كاملة إلا إذا تم صقلها صقلا تاما حتى تزول عنها الأوساخ كذلك يجب توجيهها التوجيه المناسب نحو النور ، ثم بعد ذلك يوضع الشيء المراد رؤيته أمامها في المكان المناسب والملائم الذي يسمح بظهوره كاملا فيها وهذا ماينطبق على العقل ، إذ يجب أولا أن يبدأ الإنسان بتطهير عقله مما علق به من أوهام تعوق تفكيره السليم حتى يمكنه التوجه نحو المعرفة الصحيحة ثم يمكن العقل صاحبه من المعرفة الصحيحة بالفعل . فليس العقل إلّا كالمرآة التي تعكس صورة الاشياء كما هي تماماً ،لكنها كالمرآة الملتوية التي تمزج الصورة نفسها بصورة الأشياء التي تصدرها فتصيبها بالفساد والتشويه .
كما يرى بيكون أنه على العلماء والباحثين قبل الإقدام على البحث العلمي أن يطهروا عقولهم من التصورات السابقة ، حيث تواجه الباحث مجموعة من الأوهام تنال من قدرته على التفسير وتحد من حريته في الفهم والتأويل أثناء تفسير ودراسة الظواهر ، فيحذرنا بيكون من الوقوع في أسر هذه الأوهام أكثر من تحذيره لنا من التخلص منها لأنها جزء من طبيعة البشر.و يرصد لنا بيكون أربعة أنواع من الأوهام متمثلة في :
" أوهام القبلية أو الجنس "وهي تعود إلى النقص الطبيعي في العقل الإنساني من حيث هو كذلك ، أنه عقل إنسان أورثته الخطيئة والكبرياء والغرور ، والعقل هنا أشبه بالمرآة الكاذبة التي تشوه طبيعة الأشياء وألوانها وهي مشتركة بين أفراد الإنسان فيفرض على الطبيعة مايمليه عليه عقله لا ماتمليه عليه التجربة والمشاهدة فتجعله يميل إلى التعميم والتسرع في إصدار الأحكام ، لذلك على الإنسان متى عرفها برأ الذهن منها ومن عوائقها ، ونجد لتحذير بيكون من هذه الأوهام نتيجتين خطيرتين : أولاهما أحبطت محاولات الرياضيين والفلاسفة في جعل الفيزياء علم رياضي عام ، وثانيهما أن عمل بيكون على إعداد المدرسة العملية الإنجليزية التي اتخذت من التجربة المعلم الأول في مجال الطبيعة .
إضافة إلى أوهام الكهف : ( المقصود من الكهف البيئة التي نشأ فيها الفرد ) هذه البيئة هي التي تجعل الأفراد يتوهمون نوعا من الأشياء و يقرون بوجودها ، و التخلص من هذا النوع من الأوهام لا يكون إلا بالتحرر من هذه البيئة المحرضة على الجهل ( نقد الدين و المجتمع ).، فأوهام الكهف تعود إلى طبيعة الفرد من مزاج ومكونات فطرية أو عادات مكتسبة بالتربية والعلاقات، وهي بمثابة الكهف الأفلاطوني حيث يكون العقل البشري سجيناً في كهفه الأفلاطوني وتعوقه أوهامه عن الرؤية الصادقة للطبيعة، وما من إنسان إلاّ ويعلم ويعرف بأنه سجين كهفه مما يؤدي إلى اختلاف الآراء والأحكام حول القضايا المهمة والعلوم المتعلقة بحياة الفرد .
أما أوهام المسرح : أوهام ناتجة عن نظريات سابقة لمفكرين قدماء، فمصدرها النظريات الفلسفية السابقة كنظريات أرسطو(شرالسفسطائيين ) ونظريات أفلاطون وهذه الأوهام أو الأصنام كما يسميها بيكون ليست أغاليط وسفسطات وأضاليل استدلالية ، وإنما هي ميول فاسدة في تركيب عقلنا وضرب من خطيئة أصلية تُضللنا عن فهم الطبيعة. فأسلوب أرسطو مثلا يصوغ القواعد حسب الأقيسة ثم يبحث عن مصداقيتها في ظواهر الطبيعة ،أما أسلوب أفلاطون فيجعل من العالم المحسوس تابعا للعالم المتخيل قبل وجوده، وكذلك أسلوب التجريبيين الذين سبقوا بيكون إلى مذهب التجربة ولم يقيموه على أساس ولم يتخذوا له الحيطة من الخطأ والالتباس. وبذلك نرى بيكون يقصد بأوهام المسرح تللك النظريات الفاسدة التي طالما سيطرت وتسيطر على العقول فتنجرف على الحقائق وهو يشير هنا إلى النظريات الطبيعية والميتافيزيقية الإغريقية.
وبالنسبة لأوهام السوق : فهي أوهام ناتجة عن الخلط اللغوي أو سوء استخدام اللغة و هي أهم ما يجب تجنبه فالضجيج يرتفع في السوق فيحجب الإنسان عن الإدراك الواضع للغة ، ويرى بيكون بأنها الأوهام الأكثر مثاراً للاضطراب وسميت بذلك لأن الناس متى تجتمع في الأسواق لا تملك أداة للمناقشة وتبادل الأفكار سوى الألفاظ التي تسيطر على تصورنا للأشياء ، فكثير من هذه الألفاظ يعتريه الغموض ومنها ما يطلقه الإنسان على خصائص أوصفات يدركها حين يلتفت إلى بعض وجوه الشبه العابرة بينما يغفل الفوارق الأساسية – كلفظ المحرك الأول أو المحركات الأولى- مثلاً التي قال بها أرسطو وغيره من الفلاسفة وتصوروها في عالم الأفلاك السماوية كلُ منها يحرك فلكاً معيناً ، إذن المقصود هنا هو اللغة والتي يتم بها تبادل السلع في البيع والشراء كما يتبادل بها الناس أفكارهم وآراءهم، فإذا كانت ألفاظ اللغة المستعملة مبهمة وغير دقيقة فستكون مصدر خطأ عند الكثيرين وستكون النتيجة أن يمعن الناس في الجدل وتزداد حدة الاختلافات
والنزاع بسبب غموض المصطلحات والألفاظ المستخدمة في النقاش والحوار.
هذه هي الأوهام التي تؤدي بالفرد في حياته اليومية أو الباحث في دراسته العلمية إلى الخطأ والزلل، وإذا تخلص منها ونجح في التخلص من الأوهام الأربعة بقوة وإرادة وعزيمة عقلية واعية تمكن من أن يدخل إلى ممكلة العلوم من أوسع أبوابها ألا وهو المنهج الأستقرائي الذي يبدأ بالملاحظات الحسية ، حيث يتم تطهير العقل و جعله أكثر استعدادا و قابلية للتفكير العلمي الدقيق و لكن لا يتم له ذلك كلية إلا من خلال التجريب أو التفكير وفقا لمنهج علمي مطلق الضبط بخطواته الثلاث ( الملاحظة ، الفرضية ، التجريب ). إن نتائج المنهج التجريبي حسب فرنسيس بيكون عبارة عن حقائق مطلقة لا احتمال فيها ، و هي مبادئ ثابتة يصل إليها العقل عن طريق التطبيق الصارم للتجربة وفق عدة قواعد حصرها بيكون في تسع (9) و هي : "تكرار التجربة " أي عدم الاكتفاء بإجراء التجربة مرة واحدة ، بل يجب تكرارها عن طريق تغيير الشروط و الظروف في كل مرة . كذلك " تنويع التجربة" وهذا يكون بتغيير كميات و خصائص المادة الخاضعة لها 3_ مد التجربة : في حال نجاح التجربة تعمم لتشمل مجالات أخرى داخل نفس العلم ، زد على ذلك "نقل التجربة " أي الاستفادة من التجارب الناجحة في علم من العلوم في علوم أخرى ، ضف إلى ذلك قاعدة " قلب التجربة " وهذا يعني البحث في السؤال العكسي لها مثال ذلك : هل البرودة تنتشر من الأسفل إلى الأعلى ؟ / قلبها : هل الحرارة تنتشر من الأعلى إلى الأسفل ؟ ، ثم القيام "بجمع التجارب " أي محاولة استخلاص القوانين المتحصل عليها من عدد من التجارب في إطار قانون واحد. " صدف التجارب " ومعناه اجراء التجارب بشكل عشوائي و ملاحظتها ، بعدها " استخلاص التجربة " في شكل قانون قابل للتعميم في حال نجاحها، وأخيرا القيام "بإلغاء التجربة " في حال فشلها مع كل هذه القواعد .
هذا و يقسم بيكون العمل التجريبي إلى مرحلتين هما : مرحلة إجراء التجريب ، ومرحلة تسجيل نتائج التجريب في قوائم تصنيفية أي على شكل قوانين وفي هذا الصدد يقول بيكون : '' إن الوقائع التجريبية أشبه بجيش ضخم من أشبه بجيش ضخم العدد مبعثر و متفرق و تنظيمه في قوائم يقدم لنا القوانين '' ، و هذه القوانين عبارة عن ثوابت – مبادئ- تتحكم في حركة الكون و الطبيعة و بالكشف عنها يكون المنهج التجريبي قد توصل إلى نتائج دقيقة و مطلقة لا تتغير بتغير الزمان و المكان .
إن النتائج التجريبية تصاغ في أحكام كمية رياضية حتى تبتعد عن الوصف والكيفيات التي تثير الإلتباس والغموض، ومن ثمة تضمن الدقة والاختصار واليقين، وأحسن تعبير عن ذلك ما نجده في النموذج الفيزيائي وما حققه من يقين في منهجه ولغته ونتائجه فصار من أرقى العلوم دقة، وكل هذه الخصوصية في النتائج التجريبية هي التي فتحت للإنسان آفاق المستقبل، وإمكانية التنبؤ بالظواهر قبل حدوثها، واستثمار تلك النتائج في واقعه وما ترتب عن كل ذلك من أبعاد حضارية وتقنية ومعرفية لم تخطر أبدا على عقل الإنسان ، ومن بين الأدلة التي اعتمد عليها أنصار هذا الاتجاه لتبرير موقفهم أيضا، أن الأساس الذي تستند وتقوم عيه النتائج والقوانين العلمية هو مبدأ الحتمية المطلق الذي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب وشروط متى توفرت تحققت نفس النتائج، ذلك لان العلم كما يؤكد كلود برنار قائلا: "إن العلم حتمي بالبداهة، وهو يضع الحتمية موضع البديهيات، فلولاها لما أمكن أن يكون" ، ومن ثمة فهو يرفض أن تكون هناك ظاهرة علمية لا ترتبط دائما بنفس الشروط، وهذا ما يتضح من خلال قوله: "إن ظاهرة لا يمكن تحديد شروط وجودها لا تعدو أن تكون إنكارا للعلم" ، لذلك فهو يجعل الحتمية أساس كل العلوم التجريبية وتخضع لها جميع الظواهر جامدة كانت أم حية ، يقول كلود برنار: "تتحدد شروط وجود كل ظاهرة تحديدا مطلقا في جميع الكائنات سواء أكانت أجساما حية أو جامدة". ووفقا لمبدأ الحتمية المطلق يمكننا التنبؤ حينها بحدوث الظواهر وقوانينها وهي الغاية التي يسعى إليها العلم. نفس الرأي ذهب إليه بوانكاريه الذي يؤكد على أن العلم يخضع لمبدأ الحتمية المطلق وهو ما يجعل الحقائق المتوصل إليها تتصف بالدقة واليقين، لأن العالم الذي لا تسوده الحتمية حسب بوانكاريه هو عالم موصد في وجه العلماء، لأن العلم حتمي بالبداهة. وهو ما جعله يضع هو الآخر كامل ثقته في مبدأ الحتمية ويؤكد بثبات الشروط والأسباب وبالتالي الثقة التامة في المنهج التجريبي وما ينجم عنه من نتائج وقوانين إذ يقول: "يجب أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة وسببا لحالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة ".
يتبع في الأسفل